أصدرت لجنة البحث الجمهورية في الولايات المتحدة بحثاً مطولاً عن الأمن القومي الأميركي والشؤون الخارجية بعنوان “تعزيز قوة أميركا ومواجهة التهديدات العالمية “. والقارئ لهذا البحث لابد أن يصيبه القلق من سايكولوجية المتحكمين بالقرار في الولايات المتحدة والذين يعتبرون “الاستثنائية الأمريكية” والتحكم بمصائر الشعوب والدول من بديهيات الأمور وكأن الله قد أعطاهم تفويضاً بإعادة صياغة العالم على شاكلتهم؛ أي أن تكون دول العالم تابعة وخادمة للمصالح الأمريكية، وكل من لا يقبل ذلك ويسهم به يصيبه عقاب شديد. إذا عانى الفرد من اضطراب في حالته النفسية يلجأ إلى طبيب كي يساعده، ولكن إذا كانت الاضطرابات هي سمة من يمسكون بمقاليد حكم ويمتلكون مفاتيح أقوى دولة على هذا الكوكب فكيف يكون العلاج؟ القارئ الهادئ اليوم لواقع الحال في الولايات المتحدة يستطيع أن يرى أنّ الخلافات الداخلية تعصف بها؛ فمن كان يتخيل مثلاً أن يصل الخلاف بين جون بولتون المعروف بحقده على شعوب الأرض والرئيس الأميركي ترامب، الأكثر كرهاً للعرب وإجراماً بحقّهم، إلى حدّ المخاصمة في المحاكم؟ من يقرأ ورقة مجموعة البحث الجمهورية يرى كيف أنهم يعتبرون الحزب الديمقراطي في ضلال.
كما أنّ معظم القرارات الصادرة اليوم حول المنطقة العربية هي من صنع عائلة ترامب في البيت الأبيض بينما يلتقط بومبيو أنفاسه ليشهد على التنفيذ على أرض الواقع. حتى إنه يمكن القول إن أي ملف سياسي أو دبلوماسي في الولايات المتحدة يعتريه الكثير من الجدل والآراء المتناقضة التي تقترب من الإرباك والشّلل إلا ملف العقوبات الذي يعتبر اليوم الملف الوحيد الذي تجمع عليه الآراء والذي يوهم من يسعون إلى تفعيله أنهم مازالوا قوة ضاربة وأن تأثيرهم في الأرض على الشعوب مازال يحسب له حساب. ولكن أي دبلوماسية هذه لدولة مازالت تُعتبر إلى حدّ الآن الأغنى والأقوى في العالم؟ وأي مفهوم وانطباع تخلقه في أذهان البشر إذا كانت العقوبات هي الأسلوب الوحيد الذي تعبّر من خلاله عن قوتها ومكانتها. “الاستثنائية” كما يدّعون؟ ربما هذا هو السبب النفسي الخفي الذي يدفع الإدارة الأمريكية إلى إصدار عقوبات بحق سورية وإيران والصين وروسيا وفنزويلا بالإضافة إلى العقوبات التي مازالت قائمة على عشرات الدول، من العراق وأفغانستان إلى كوبا وجنوب إفريقيا. أي إن هذا هو المظهر الأخير من مظاهر القوة الذي يقنعهم أنهم مازالوا السلطة الأهم في هذه الدنيا. ولكنّ هذا النوع من الإجراء الإجرامي بحق الشعوب له عواقبه الوخيمة ولو بعد حين لأنه يعني أن الدولة التي تتخذ كلّ هذه الإجراءات بحق شعوب بريئة وتتسبب لها بصعوبات في الحياة تصل إلى حدّ فقدان هذه الحياة، أن هذه الدولة سقطت قيمياً وأخلاقياً وأن هذا السقوط يجب ألا يستهان به لأنه أكثر إيلاماً وأبعد خسارة على المدى البعيد من خسارة معركة عسكرية.
وإذا اتفقنا أن العقوبات هي أسلوب الحرب الجديد الذي تتبعه الولايات المتحدة اليوم لتؤكّد استثنائيتها وتفوّقها فلا بد أن نتفق أيضاً أن معيار الربح والخسارة في هذه الحرب الجديدة لم يتوضح بعد للكثيرين وخاصة بسبب التشويه المصطلحي والإعلامي الذي تقوم به الدوائر المصدّرة لهذه الإجراءات والمتحكمة بالإعلام العالمي؛ فهل يعقل مثلاً أن يسمى أسوأ إجراء إجرامي ضد الملايين من المدنيين السوريين “قانون حماية المدنيين في سورية”؟! وقس على ذلك من مصطلحات وإعلام يقلب الوقائع رأساً على عقب ويزوّر المحتوى وجوهر القصد من هذه الإجراءات. وللأسف فإن معظم الأقلام التي تتناول هذه العقوبات تتساءل عن آثارها وأنجع الأساليب لمواجهتها ونادراً ما نتوقف لنسأل ماذا تعني شراسة هذه العقوبات الإجرامية حتى للطرف الذي يصدرها؟ ما نراه ونقرأه ونفهمه اليوم يؤكّد أن فرض العقوبات على الدول والشعوب والأشخاص هو المظهر الوحيد من مظاهر القوة الأميركية والوحدة الأميركية والتعاون عبر الأطلسي، لأنهم سواء في الداخل الأميركي أو في العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا لا يجدون ما يتفقون عليه سوى إلحاق الضرر بالشعوب الأخرى. وبعيداً عن منطق التبسيط فإن الهدف من هذه العقوبات هو إعادة صياغة المنطقة والعالم ولكن من دون خوض معركة عسكرية آملين بتحقيق كل الأهداف من هيمنة وسيطرة ونفوذ ونهب ثروات الشعوب من دون اللجوء إلى إرسال جيوشهم بل استخدام مرتزقة وبيع أسلحة للدول النفطية التابعة لهم. فالعقوبات على سورية وإيران والعبث بالشأن اللبناني والعراقي كلها تهدف ليس فقط إلى تمرير صفقة القرن وإنما إلى إعادة ترتيب المنطقة العربية بحيث يصبح الكيان الغاصب الغريب عنها هو القوة الأساسية المهيمنة على مقدرات العرب كلها.
ويأتي الدفع بالتطبيع السعودي الخليجي مع الكيان المحتل ليشكّل الوجه الآخر من المعادلة ذاتها ويزيد العدوّ قوة والعرب ضعفاً وتشرذماً. كما أن التعاون شبه المعلن مع العثماني الجديد لمدّ آثامه العدوانية على سورية وليبيا والعراق هو تواطؤ في الاتجاه ذاته لأن العثماني الجديد ورغم كذبه المعتاد والمتكرر إنما يعمل بالتنسيق والتواطؤ مع العدو الصهيوني، وإن نتائج عدوانه وجرائمه في هذه الدول الثلاث تصبّ جميعها في مصلحة العدوّ الصهيوني. الأهداف واضحة إذاً ألا وهي إبقاء العراق في حالة من الشلل وإبقاء العقوبات المفروضة عليه لمنعه من النهوض الحقيقي ووضع عقوبات مشدّدة على سورية واقتصادها والتدخل السافر بالشأن المالي والاقتصادي اللبناني أملاً في منع هذا المحور من إرساء أسس بنية تحتية وتواصُل، من إيران إلى العراق وسورية ولبنان. لقد اعتبرت الدوائر الصهيونية ومراكز أبحاثها ومنذ سنوات أن نشوء هذا المحور واشتداد عوده خلال تعاونه في الحرب على الإرهاب في سورية أصبح أكبر خطر يهدد الأمن الإسرائيلي وأن الأولوية من منظور إسرائيلي يجب أن تنصبّ على إضعاف هذا المحور وتفكيكه ولذلك هم يشددون اليوم العقوبات على إيران لمنعها من مساعدة دول المحور ومنع هذه اللحمة من الاكتمال.
وإن اختراقهم دول الخليج عسكرياً وسياسياً ومخابراتياً يهدف إلى الإسراع بملفات التطبيع مع العدو اللدود الطامع بثروات السعودية والخليج، وهم يحاولون أن يحسموا الحرب المجرمة على شعب اليمن لمصلحتهم غير مدركين أن هذا لن يحدث أبداً وأن العرب لا يمكن أن يستسلموا مهما غلت التضحيات. هذا هو ما لديهم ولكن النتائج لا تعتمد على خططهم بل تعتمد على تعامل دول المحور والدول الأخرى مع هذه الخطط؛ فقد اكتشفنا خلال عشر سنوات من مقاومة كل أنواع الضغوط أن ما تقوله وتخطط له الولايات المتحدة ليس قدراً وأن تاريخ الشعوب يشهد أن الشعوب تصنع تاريخها ومستقبلها وفق ما تريده هي، وليس وفق ما يخطط له أعداؤها. ولا شك أن محور المقاومة ومحور مكافحة الإرهاب والذي انضمت له روسيا، واليوم تقترب الصين من الانضمام إليه بعد العقوبات التي أصدروها ضدها بحجة الإيغور وهونغ كونغ، لا شك أن هذين المحورين لن يرضخا للعقوبات الأمريكية ولن يسمحا للولايات المتحدة أن تتمكن من تحقيق أهدافها في المنطقة والعالم. وإذا ما تذكرنا دائماً ما قلته آنفاً أن العقوبات هي الطلقة الأخيرة المتبقية لدى الولايات المتحدة كمظهر قوة ووحدة فإن إفشال هذه العقوبات يصبح واجباً وطنياً وإقليمياً ودولياً لكلّ الأطراف المعنية والمستهدفة، ولا شك أيضاً أن العالم بعد التخلص نهائياً من هذا الإجراء اللاقانوني واللاشرعي سيكون أكثر سلامة واطمئناناً وازدهاراً، ما يجعل من إفشال العقوبات واجباً إنسانياً تجاه البشرية جمعاء.