الهدف ليس الجغرافيا بل الهوية
بماذا فكرتم وأنتم تسمعون الأخبار بأن داعش قد خطفت 150 آشورياً من الحسكة بعد أن كانت قد خطفت واحداً وعشرين قبطيّاً من مصر إلى ليبيا وأعدمتهم هناك؟ وبماذا فكرتم وأنتم تشاهدون داعش تحطم الثور المجنح الذي يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد وهي تهدم أيضاً أقدم الكنائس والمساجد والأوابد التاريخيّة في سورية والعراق وليبيا؟ من المفروض أن داعش لم تكن موجودة في سورية حين قام الإرهابيون بتدمير سوق حلب الأثري والجامع الأموي الكبير هناك وفجروا فندق الكارلتون وغدا رماداً وبيت وكيل وبيت المنصورية وبيوتاً وشوارع كانت تُعتبر كنزاً حضارياً ومعمارياً في حلب الشهباء. ولنعود في الذاكرة أكثر فمنذ انطلاق الأحداث في سورية اتخذت المجموعات التدميرية من الجامع العمري الأثري في مدينة درعا مقراً لها ثم نهبته بعد ذلك وحفرت تحت أرضه التي تعجّ بالآثار وهرّبتها خارج البلاد، وبين درعا وحلب والحسكة والموصل نُهِبَت آلاف القطع الأثرية التي لا تُقدّر بثمن وآلاف الرُقُم التي تشهد على الحضارات البابليّة والآكاديّة والآشورية. كما تمّ حرق المكاتب في مدن عربية عدة وآلاف المخطوطات النادرة. وإذا عدنا مرة أخرى إلى تاريخ أسبق بقليل نتذكر أن أول هدف كان للاحتلال الأميركي بعد سقوط بغداد هو متحف بغداد وأول لوحة سُرِقت منه هي لوحة نبوخذ نصّر ثم جعل الأميركيون من بابل منطقة عسكرية وقد قرأتُ في حينها عدداً من المقالات في الجرائد الأميركية تقول إن خسائر متحف بغداد يمكن إحصاؤها لأنها مسجلة ومعروفة أما ما يُنهب من بابل فلا يمكن حصره وتسجيله وجميعنا يعلم أهمية بابل بالنسبة لخصوم هذه الأمّة. وإذا توسعنا في الجغرافيا وعدنا في التاريخ نتذكر أن الكيان الإسرائيلي هو أول من بدأ منذ عقود بهدم الكنائس والجوامع والبيوت الأثرية في كل أرجاء فلسطين وخاصة في القدس بذرائع مختلفة وواهية.
إذاً علينا قراءة ما تقوم به داعش اليوم في الشمال الشرقي من سورية وفي العراق وفي مصر من خلال استحضار كل هذه الأعمال التي قام بها الاحتلال الأميركي في العراق والإرهابيون بمسمياتهم المختلفة، داعش أو النصرة والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، لديهم هدف واحد وهو طمس هوية العرب الحضارية وتحطيمها ونهبها وتجزئة العرب إلى فرق ومجموعات متناحرة. الوقت المخصص لهذا المشروع ليس سنة أو سنتين ولا عقداً أو عقدين بل ربما قرن أو نصف قرن لأن حضارة عشرة آلاف عام لا يمكن محوها بضربة واحدة قاضية ولذلك أعلنت الولايات المتحدة ومنذ البداية أن الحرب على داعش قد تستغرق عشرين سنة لأن مهمة داعش الموكلة إليها بحاجة إلى هذه الفترة الزمنية كي لا يبقى في العالم العربي ما يدلّ على حضاراته وإنجازاته العلميّة والتاريخيّة التي ساهمت إسهاماً قيّماً في الحضارة الإنسانية. هؤلاء الذين دمّروا أكثر من 173 قطعة أثرية نادرة في متحف الموصل وانهالوا على الكتابة المسمارية كي لا يبقى لها أثر ليسوا مسلمين ولم يفعلوا ذلك لأن التماثيل تتناقض مع الشريعة، بل لديهم خطة واضحة ومطلوب منهم أن ينفذوها وهم مجرد مرتزقة تخطط لهم وتوجههم أعتى الدوائر الصهيونية والاستعمارية التي تستهدف هذه الأمة تاريخاً وحضارة وهوية ووجوداً، إذ كما لاحظنا لا يعنيهم الثبات في مكان بل التحرك لإحداث المزيد من التدمير لكنوزنا الأثرية.
لقد استغرق القضاء على الأميركيين الأصليين والأبورجينز في كندا واستراليا أكثر من ثلاثة قرون وعقدت القوى الاستعمارية معهم خلالها مئات الاتفاقيات فقط كي تكمل مشروعها التدميري لحضارتهم وثقافتهم ومعتقداتهم. وبوليفيا اليوم وما تبقى من تلك الحضارات شاهد على أنها كانت حضارات متقدمة في المعتقد والفن والأخلاق الإنسانية الرفيعة. إن ردود الفعل الدولية الباهتة والمخزية للدول الغربية على هذه الجرائم التي يرتكبها الإرهابيون بحق حضارتنا وشعوبنا على امتداد الساحة العربية تؤكد أن الحرب هي حرب على العرب والعروبة وأن أعداء هذه الأمة يتربصون بها من خلال مجموعات مختلفة من المرتزقة تخطط لها دوائر عليا تستهدف وجودنا ومستقبلنا. فهل حان للعرب الذين يتم التخطيط لتدميرهم كأمة واحدة أن يعتبروا أنفسهم أمة واحدة وأن يتداعوا لنصرة بعضهم واستنهاض بعضهم لما فيه خيرهم وخير هذه الأمة وخير مستقبل أجيالها؟ لم يعد التضامن العربي ترفاً أو اختياراً بل أصبح شرطاً لاستمرار وجود العرب جميعاً.