مقالات

زها حديد.. نبتة عربية على أرض صخرية

كتبتُ عن زها حديد للمرة الأولى في جريدة تشرين في 8/10/1994 حين فازت في عقد تصميم دار الأوبرا في مدينة كارديف البريطانية. وتمّ اختيار تصميم السيدة حديد من بين 270 تصميماً تقدّم بها مصممون من جميع أنحاء العالم بمن فيهم مهندسو عمارة معروفون دولياً مثل نورمان فوستر، ورافييل مونيو، مصمم متحف التاسين في مدريد. وقد وصف المحكّمون تصميمها بأنه «بركان من الطاقة» وامتدح المحكّمون براعة السيدة حديد في إعطاء مقاعد الدار البالغ عددها 1750 مقعداً، أفضل رؤية وأجمل مكان. وقال المحكّمون «لدى هذا التصميم القوة أن يكون أنموذجاً للعالم بأسره». والسيدة حديد هي المرأة الأولى التي تفوز بعقد على هذا المستوى في بريطانيا في القرن العشرين. وأخذ فوزها ضجة عالمية بحيث أوقفته جماعات اللوبي الصهيوني والدوائر المعادية للعرب. وأعيدت المسابقة من أجل بناء هذا الدار ذاتها مرة ثانية وثالثة (حيث عدت وكتبت عن هذا الموضوع عامي 1995 و1998)، وفي المرات الثلاث فاز تصميم زهاء حديد على كل تصاميم المعماريين العالميين مثل البريطاني نورمان فوستر، والإيطالي مانفرد نيكوليتي، والإسباني رافاييل مونيو، مخترقة بذلك حواجز الثقافة والجغرافيا والجنس. ومع ذلك وبسبب قوة «جماعات ضغط دولية سرّية» تمّ حرمان المهندسة العربية من تنفيذ تصميمها مع أن حرمانها من التنفيذ شكّل، كما اعترفت مصادر بريطانية، «أكثر العمليات الاستشارية كلفة في تاريخ بريطانيا»، ومع أن الصحف البريطانية توقعت أن يغيّر هذا التصميم من مستقبل المدينة لأنه يضفي «شخصية على الساحل المُغفلِ ويجعله جزءاً من النسيج المعماري للمدينة». كما وصفت جريدة النيويورك تايمز أعمال المهندسة العراقية زها حديد بأنها «مثيرة ومبهجة وأخّاذة وجواهر مشرقة». ولكن النقاد الأميركيين ركّزوا على الأصول العربية لتصاميمها وعلاقتها بالعمارة السومرية والإسلامية. وقد عبّرت السيدة حديد عن فخرها بهويتها العربية وقالت: «أشعر بانتماء ثقافي عربي لأنني بالفعل عربية، والعالم العربي غني بأدمغته ومواهبة، غناه بموارده». كما اعترفت صحيفة النيويورك تايمز أن زها حديد «أصبحت أحد أكثر الأشخاص نفوذاً في العالم المنيع للعمارة العالمية». وأضافت: «إن هذه المهندسة العراقية ذات المزاج البركاني تمزج الثلج والنار. وقد تميّزت معظم تصاميمها بأنها مبهجة لأنها تُحوّل العصر والتكنولوجيا لمصلحة الإنسان».

كل هذا كتب عن زها حديد في تسعينيات القرن الماضي، وزارت بعدها بلداناً عربية عدّة في محاولة منها لوضع أحد تصاميمها على الأرض العربية التي أنبتتها والتي لم تتحرر زها من عشقها والحنين إليها يوماً. لقد حدثتني عن الألم الذي عانته حين اجتمعت كل القوى السرّية العالمية لحرمانها من أن ترى مبنى دار الأوبرا في كارديف حقيقة على كتف البحر. وقالت لي لم يحدث في تاريخ العمارة أن تُعاد المسابقة ثلاث مرات وأن يفوز التصميم نفسه في المرات الثلاث، ومن ثمّ أن تنجح جماعات اللوبي السريّة في حرمان هذا التصميم من أن يرى النور. ولم يكن لديها شك أن هويتها العربية كانت السبب الأساس في هذا الحرمان.

واليوم، وقد ترجّلت زها حديد في وقت مبكر جداً عن عرش العمارة العالمية، وتركت خواءً قاتلاً في فضاء الإبداع العربي وفي الإبداع المعماري العالمي، نشرت معظم قنوات الأرض صوراً عن تصاميمها التي تشكّل تجربة في الخلق والإبداع لا نظير لها، حيث تنتشر هذه المباني من إسبانيا إلى ألمانيا وإيطاليا والصين والولايات المتحدة واليابان، في حين لا يوجد مَعلم واحد من معالم زها حديد على الأرض العربية التي أنجبتها من رحمها. يا لها من خسارة ويالها من مفارقة أن تتعرض أحد أهم المواهب المعمارية في عصرنا الحديث إلى حرب شعواء على الساحات العالمية بسبب جذورها وهويتها العربية. في الوقت ذاته لا يكترث العرب بتبنّي هذه الموهبة وتزيين بلدانهم بتصاميم أثبتت فرادتها على مساحة الكون.

الألم مضاعف على فراقك يا زها، لأنك كنت وستبقين أيقونة إبداع هذه الأمة التي لم تحتضنك، كما لم تحتضن مبدعين كُثراً، فهاجروا وأغنوا العالم بإبداعاتهم في مختلف المجالات ولكن ليس باسم عروبتهم بل باسم جواز السفر الجديد الذي منح لهم على أرض أخرى. أما أنتِ فقد اخترت لذاتك صفة العراقية العربية وفاءً منك لتلك الأرض التي أنجبتك وتقديراً منك لعبقرية العرب على مرّ العصور.

الألم مضاعف على فراقك يا زها، لأنك أنجزت للعالم كله دُرَرَاً معمارية ستبقى شاهدة على عبقريتك أنتِ الفذة والفريدة، في حين أخفق العالم العربي أن يحتضن حتى معلماً من معالمك رغم كل محاولاتك.

الألم مضاعف على فراقك يا زها، لأن تجربتك مع عمق الانتماء وانعدام الاحتضان لهي مؤشّرٌ على ضعفنا وعجزنا نحن العرب عن أن نستثمر الطاقات العاشقة لنا والراغبة في تعزيز مكانة العروبة على مستوى العالم. إذ لا شكّ أن الفشل الذي يعانيه اليوم معظم البلدان العربية ناجم في جوهره عن استبعاد النخب الحقيقية، وعدم توفير البيئة لها لتنتج وتبدع، فتهاجر وتساهم في خدمة حضارات أخرى، في حين تبقى الحضارة العربية تفتقر إلى المجدّدين والمبدعين والمواهب الفذّة التي كانت وستبقى دائماً وأبداً الأداة الأساسية لتقدّم البلدان وازدهارها.

الألمُ مضاعفٌ على فراقك يا زها، لأنك عَبرتِ في هذا الكون تحملين مشعل العروبة والإبداع وهبّت نسائمك في أصقاع الأرض وفاح عطر تاريخ العروبة من نوافذك، وهذه بصمة تحسب لك وتؤهلك أن تكوني في سجّل الخالدين، ولكنّ تجربتك تؤلمنا بعمق لأننا خسرناك في حياتك قبل مماتك. لست هنا لأُرِثَيكِ يا زها، فأنت لا تستحقين سوى التكريم والاحتفاء.

أما نحن، فنحن الذين نستحق الرثاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى