حياة البشر: اقتصاد أم سياسة؟
انشغلت وسائل الإعلام العالمية في الأسبوع الأخير بلقاء بوتين وأردوغان ومن ثمّ بلقاء أردوغان وظريف وباللقاءات الأمنية المحتملة القادمة في طهران بالإضافة إلى لقاء باكو الذي سبق هذين اللقاءين الأخيرين. وكثرت التحليلات والتأملات حول الانعكاسات الممكنة لهذه اللقاءات على الحرب الإرهابية الدائرة على سورية واحتمال ارتدادات إيجابية لهذه اللقاءات على إمكانية وضع حدّ لهذه الحرب. ولكنّ حقيقة الأمر هي أنه قد يكون ما جرى في الغرف المغلقة هو التركيز على الاقتصاد ومحاولة إلحاق السياسة به، أو الاستفادة من المصالح الاقتصادية من أجل خلق مرونة أكبر في المواضيع السياسية. إذ إنه من الواضح أن روسيا وتركيا ترتبطان بعلاقات اقتصادية ذات بعد مهم للبلدين وكذلك الأمر بالنسبة لإيران وتركيا مع طموحات لتطوير هذه الملفات الاقتصادية وتثبيت أطرها وآفاقها الإستراتيجية. وما رشح عن هذه الاجتماعات يظهر أن ما يحاول أردوغان أن يفعله هو أن يستقدم مزيداً من الرفاهية الاقتصادية لتركيا وأن يتمكن، بفضل ذلك، أن يضرب بيدٍ من حديد كلّ من يخالفه الرأي داخل بلاده، وأن يستمرّ في تحالفاته الإقليمية، التي ومنذ البداية، مولت وسلّحت الحرب الإرهابية على سورية وبذلك يكون ملتزماً أيضاً بالعصابة الإخوانية التي استهدفت تحويل الأنظمة العربية في المنطقة إلى أنظمة عميلة وتابعة لتركيا والغرب ومازال تحالفها مع الوهابية السعودية وعصابة الإخوان والجناح الإرهابي لهما المتمثل في جبهة النصرة، مازال هذا التحالف يشكّل قوام سياسة أردوغان الذي يتمثل هدفه الأول في أن يبقى دكتاتوراً مطلق الصلاحيات وأن يستخدم كل تحالفاته من أجل تدمير سورية، الأمر الذي يصبّ في خانة تحالفه العميق مع الكيان الصهيوني. وفي هذا الإطار تبقى انتقاداته للإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي نوعاً من الابتزاز السياسي الذي ربما يساعده في تحسين أثمان سياساته مع روسيا وإيران ويعزز الوهم الذي يخلقه بعض إعلامه أنه قد يكون على مفترق طرق في سياساته الإقليمية وقد يحدّد توجهه القادم وجهة الحرب على سورية وإمكانية التوصل إلى حل، ولكن ليس قبل أن تعترف الولايات المتحدة وروسيا بمكان لأردوغان على الطاولة في هذه التسوية. وقد رشح من خلال الإعلام التركي في الفترة الماضية أن وفد العملاء السعودي قد انسحب من حوار جنيف بناءً على أوامر أردوغان الذي يريد أن يحجز لنفسه مقعداً على طاولة التسوية، ولم ينسحب بناءً على أوامر آل سعود، وقد يكون هذا الهدف هو الأهم اليوم في ذهن الطامح أن يكون سلطاناً أوحد، حتى وإن كانت خطواته تتخبط ببحر من الدم السوري البريء والذي يعتبر هو من دون شك عاملاً أساسياً في سفكه منذ الأيام الأولى لهذه الحرب وحتى اليوم.
وبينما يتم بحث نقل الغاز المسيل والسياحة وتبادل مئات السلع الإستراتيجية بين الدول، تبقى غرف التخطيط الغربية منشغلة بعملها القديم الحديث ألا وهو تحويل أنظمة الحكم العربية إلى محاصصات تُحدث في النتيجة شللاً دائماً بين فريق يتلقى أوامره من الغرب وفريق آخر يحاول أن ينفذ أجندته الوطنية لمصلحة الوطن والشعب. وفي هذه الأثناء تنفرد قوات الاحتلال الصهيوني بتصفية قضية شعب والاستهانة بمصير الأسرى وقتل الشباب وقضم الأراضي، في حين يحرّك المستهدفون لروسيا وسورية وإيران ملف القرم في أوكرانيا كذلك أيضاً في ابتزاز سياسي للموقف الروسي الواضح ضدّ الإرهاب، والداعم لنضال الجيش العربي السوري والشعب السوري ضدّ الآفة الإرهابية الخطيرة والقاتلة.
وبهذا فإن المشهد السياسي اليوم هو كالبحر الهائج المتلاطم الأمواج كلما وصلت إحدى موجاته ظنت أنها الأكبر والأهم إلى أن ترى موجة أخرى تليها أكثر ارتفاعاً وأشدّ عنفاً وارتطاماً بالشاطئ. ولكنّ الثابت في كلّ هذا المشهد هو أن حياة الشعوب ومصائر الناس وآهات الثكالى والأيتام ودموع الحرقة المذروفة على الأحبة المخطوفين والشهداء والمغيبّين ليست ضمن أولويات القائمين على هذا المشهد الدامي والمحركين لأدواته الأساسية. لأن جدول أولوياتهم يركز أولاً وقبل كل شيء على فوزٍ في انتخابات لأحزابهم، أو الاستمرار في خطب ودّ الآيباك وإسرائيل من أجل إدارة قادمة وفوز حزب ورسم سياسات تصبُّ في مصالح الرأسمالية وشركات صنع السلاح والطبقات الثرية التي تحلم دائماً وأبداً أن تزداد ثراء. وما الأحاديث الممجوجة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان إلا ورقة للمساومة وتجارة أصبحت واضحة بدماء البشر في أي زمان ومكان.
إذ حين تمكن الجيش السوري من إحكام طوقه على إرهابيي حلب كرّست وسائل الإعلام الغربية ومراكز الأبحاث والقرار نفسها لإثارة ضجة لا أساس لها حول الوضع الإنساني في حلب، وحين يتنفس الإرهاب الصعداء في أي جولة من معارك مستمرة، تصمت وسائل الإعلام الغربية في ارتقاب تقدم أكبر لأوراقهم في المعركة. ولم لا، ما دامت دول النفط الخليجية هي التي تدفع فواتير هذه الحرب، والمرتزقة من كل حدب وصوب هم وقود هذه المعركة والاستنزاف قائم لمحور المقاومة وروسيا معهم أيضاً. فما الخسارة من وجهة نظر الغرب؟ وما الخسارة من وجهة نظر أردوغان؟ هذه الحرب على سورية كشفت زيف الادعاءات بالديمقراطية وحقوق الإنسان وأظهرت للمرة الألف أن المصالح الاقتصادية تركل مسائل الأمن والأمان والحقوق الإنسانية إلى الدرك العاشر وأنّ حياة البشر ومستقبل البشرية الأمن لا يحظى بالاهتمام التي تحظى به الصفقات الاقتصادية ولهذا فإننا نشهد هذا الكم من الويل والقهر والألم والحروب. قد يكون هذا هو التمظهر الأهم للإمبريالية والحضارة المادية في القرن الحادي والعشرين بحيث أن أسلحة تمً اختراعها لتقضي على البشر وتبقي الحجر. تلاطم أمواج الحرب على سورية يري أن المعسكر الغربي والإقليمي المتمثل بأردوغان والسعودية وقطر لا يقيم وزناً لحياة البشر وأمن مستقبلهم بل يستخدمهم للابتزاز وتحقيق المصالح ودفع الأثمان المطلوبة.