أتفق مع الذي قال إن الحرب الدائرة في أوكرانيا ستشكل هامشاً صغيراً في تاريخ هذه الحقبة، التي سيكون عنوانها إطاحة الدولار الذي شكل أساساً للهيمنة الغربية على العالم في السبعين سنة الماضية، لأن الانتقال من التعامل الحصري بالدولار إلى التعامل بعملات دول أخرى في تبادلاتها التجارية، سيكون كفيلاً بتقويض الهيمنة الغربية على العالم، التي اتسمت بنهب ثروات الشعوب بطرائق مختلفة، وإفقارها مع ادّعاء الحرص على الحرية وحقوق الإنسان.
ذلك هو السبب الأساس الذي يدق ناقوس الخطر في آذان الغرب ويدفع ربيبه، كيان الاحتلال، إلى التوجّس من التعاون الروسي الإيراني، والروسي الصيني، ومجموعة دول البريكس وشنغهاي.
لقد فتح الغرب الاستعماري من خلال إصراره على خوض الحرب بالوكالة في أوكرانيا على روسيا، فتح على نفسه صندوق العجائب لأن التوقيت صادف انكشاف حقيقة الحرب الأميركية على أفغانستان، والعراق، وليبيا، وسورية، واليمن، وعلى حقيقة النفاق الغربي، بعدما كشفت الحرب على سورية حقيقة دعم الغرب للإرهاب والإرهابيين، وتسويق جميع أنواع الأكاذيب عمّا يدور على أرض الواقع، وبعدما برهن “الإعلام الغربي الموجّه” أنه لا يمتلك شيئاً من الحرية، بل هو أداة حرب تشنها دوائر الاستخبارات الغربية على الشعوب والأنظمة المستهدفة.
إن ادعاء الغرب الحرص على حقوق الإنسان ليس سوى سلعة يسوّق من خلالها عنصرية كامنة في كل تعاملاته ومؤسساته ضد الشعوب المستضعفة، فينهب مواردها لمصلحة القائمين على صناعات السلاح الغربية، والعاملين دائماً وأبداً لإشعال الفتن والحروب لتسويق منتجاتهم من السلاح غير آبهين بحياة البشر أوب مصير الدول والشعوب.
في هذا التوقيت، وفي هذا المناخ المفعم بتطلعات الشعوب الحرة للتخلّص من “الاستثنائية العنصرية الغربية”، وإرساء أسس جديدة لعلاقات احترام متكافئة بين الدول، يتحفنا فرانسيز فوكوياما في مقاله الأخير وعنوانه “بلدهم الخاص بهم: الليبرالية تحتاج إلى الأمة”، فيتحدّث عن التجاذبات بين أتباع الليبرالية، وعشاق الاستقلال الوطني، وكأن الليبرالية هي أم البشرية وأبوها وأنظمة الحكم التي شهدتها الدول على هذه المعمورة.
وتجاهل فوكوياما أن الحضارات الإنسانية العريقة والغارقة في القدم كالحضارة العربية، والصينية، والمصرية، والفارسية، واليونانية، وحضارة الشعوب الأصلية في الأميركيتين وكندا وأستراليا، التي دمّرها المستوطنون الغربيون، هي حضارات عرَفت التعايش بين المذاهب والأديان والأجناس والأعراق قبل أن يحكم المستوطنون الغربيون على سكان هذا الكوكب بأنّهم أقلّ شأناً من الغزاة والمحتلين والقتلة، وأن لون بشرة وعيون الإنسان الغربي هو الأعلى بين أصناف البشر، وأنّ امتلاك السلاح، ونهب الثروات والمقدّرات هما الأدوات المقبولة لاستمرار الاحتلال والاستعمار والاستيطان.
يبدأ فوكوياما جدله بالقول: “الليبرالية في خطر، وأن أساس المجتمعات الليبرالية هو قبول الاختلاف والاحترام للحقوق الفردية وحكم القانون، وأن هذه الأسس تواجه تهديداً في عالم يعاني انحسار الديمقراطية”، ويدخل بعد ذلك في جدل عقيم بين “الليبرالية كمبدأ عالمي والدعوة إلى تعزيز الهوية الوطنية”. ليس صحيحاً أن النظم الليبرالية قائمة منذ قرون، وليس صحيحاً أن ميزة الليبرالية الأساسية هي قبول الاختلاف في مجتمعات متنوعة.
إن منطقتنا العربية على سبيل المثال، وبلاد الشام خصوصاً لم تكن ليبرالية يوماً، ولكنها تمتّعت في عشرات آلاف السنين بوجود أقوام من أعراق وأديان ومذاهب وألوان وأصول مختلفة، وأنتجت هذه الأقوام علوماً وحضارات، شكلت منارات للغرب الذي بنى نهضته على أساس إنتاج فكر وفلسفة واختراعات هذه الحضارات.
نقطة قلق فوكوياما الأساسية هي الصراع بين الليبرالية والهوية الوطنية، ولذلك هو ينصح الليبراليين بألا يتخلّوا عن فكرة الدولة أو “الأمة” “Nation”، إذ لا تعارض بين “عالمية الليبرالية، وعالم من دول”، ويضيف: إن الهوية الوطنية يمكن صوغها لتعكس “طموحات ليبرالية، ولخلق إحساس بالهدف والمجموعة لدى جمهور عريض”. يُفهم من هذا الطرح، وكل الطروح في جدل فوكوياما وكأن الليبرالية هي سمة الكون، وهي الصيغة العالمية، التي يجب أن تسود بين البشر.
وواقع الأمر هو أن الدول الغربية قد عملت جاهدة ومنذ الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لترويج الديمقراطية الليبرالية، وكأنها هي الديمقراطية الوحيدة في العالم، وشنّت حروباً مختلفة على أي نظام لا يقبل أن يكون صورة عن النظام الليبرالي الغربي، مع أن الأنظمة الغربية كلها أصبحت تحكمها الاستخبارات السرية المدعومة بقوانين “مكافحة الإرهاب” التي تدعى رمزياً “الحكومات العميقة”، وفقد الإنسان هناك عدداً من حقوقه، وأصبح ضحية إعلام مضلل يخدم مصالح فئة 1% من السكان تملك 90% من الثروة.
لقد ادّعت الليبرالية لنفسها أنها الصيغة الوحيدة للعيش المشترك وحرية حقوق الإنسان وأن كل من يخالفها في الشكل أو الأسلوب أو الهدف، لا يمكنه أن يدّعي الديمقراطية أو احترام التنوّع والعيش المشترك.
فات فوكوياما في حديثه عن الليبرالية والهوية الوطنية أن ليبرالية الغرب هي التي استهدفت الهوية الوطنية في بلدان متعددة من فيتنام إلى أفغانستان إلى العراق وليبيا وفلسطين وسورية واليمن، وبلدان أميركا اللاتينية والجنوبية لأن المشكلة الجوهرية في هذه الإيديولوجية أنها ترفض أي شكل من الوجود لا يطابق شكلها، وتدّعي التعددية، ولا تتقبل أي اختلاف عنها.
إن مسيرة التاريخ وخصوصاً في العقدين الأخيرين برهنت بما لا يقبل الشك على أن الشعوب تمتلك ثقافات وحضارات وأهدافاً مختلفة، وأن كل شعب مؤهل أن يختار نظامه السياسي وفق موروثه الثقافي والإنساني، ووفق الأهداف التي تبتغيها كل مجموعة من البشر لنفسها. فها هي الديمقراطية في الصين تختلف عنها في الهند والباكستان وإيران والبرازيل، وكل هذه الديمقراطيات تختلف تماماً عن الديمقراطية الليبرالية، التي ترى الغرب نفسه صاحب الملكية الفكرية الوحيد لها، والعامل على تسويقها وترويجها لدى كل الشعوب وفي كل البلدان.
ولكنّ الخطر الذي نواجهه اليوم بعد أن صمّمت دول كثيرة في العالم على بناء الأنظمة السياسية التي تعكس هويتها –وهذا هو منشأ الصراع الأساسي بين الغرب والشرق- الخطر الذي نواجهه اليوم، هو أن الليبرالية الغربية قد توجّهت بعد بوادر فشلها العسكري إلى اختراق المجتمعات استخباراتياً وإعلامياً، ونشر أفكارها المسمومة لتقويض الأسس المحمودة، التي بنيت على أساسها مجتمعات ودول وحضارات وثقافات، وبرهنت على أنها تخدم من يعيش بكنفها بأفضل وأرقى السبل. فقد بدأت الليبرالية الغربية بتقويض مفهوم الأسرة والعائلة والالتزام، وهي مفاهيم دعت إليها الديانات السماوية، وبرهنت على جدواها على مرّ عشرات القرون.
كذلك بدأت الليبرالية الغربية بالالتفاف على المفاهيم من خلال عدم المواجهة، بل الاختباء وراء حقوق الإنسان أو الحقوق الشخصية البحتة بعيداً من الأسرة أو الأخلاق أو الالتزام المجتمعي والخلقي.
إن المعركة التي نخوضها اليوم، ليست عسكرية، ولا اقتصادية وحسب، ولكنها معركة اجتماعية وأخلاقية تعني مستقبل أبنائنا وأحفادنا، وقد تكون مواجهتها الفكرية والمبدئية هي الأولوية الأولى، في هذه المرحلة التي نشهد فيها ولادة عالم جديد مع صراع مستميت من منظري الليبرالية من أمثال فوكوياما لإنقاذها من الخطر المحدق بها.