في محاولة لصدّ العدوان الإسرائيلي الغاشم على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة، أطلقت حركة الجهاد الإسلامي شعاراً مهماً وهو “وحدة الساحات”، في مواجهة العدو الإسرائيلي، وحاولت جاهدة أن تضمن انخراط جميع فصائل المقاومة في التصدّي لهذا العدوان. ولكن العدو الإسرائيلي، وعملاً باستراتيجيته التي وضعها منذ بدء استيطانه في فلسطين، ركّز جهوده على تحييد البعض وإقناع البعض الآخر بأنه غير مستهدف، والعمل مع وسطاء للتهدئة، بينما يغتال خيرة القادة وينكّل بالنساء والأطفال ويرتكب المجازر بحق الفلسطينيين في فلسطين، من دون أن يميّز بين فلسطيني وآخر إلا بقدر ما يخدم أهدافه التكتيكية والانقضاض على فصيل مختلف في توقيتات مختلفة لإضعاف الجميع الذين يقعون في مرمى أهدافه من دون أي تمييز بين فصيل وآخر، إلا بقدر ما يخدم عدوانه واستيطانه ومراكمة أوراق قوته ونقاط ضعفهم.
من هنا فإن توحيد الساحات ضد هذا العدو الشرس هو الفيصل في أي إنجاز حقيقي يُرتجى، وما لم يقتنع المقاومون والفصائل جميعاً بضرورة العمل وفق هذا القانون، واعتباره قانوناً ملزماً لا شعاراً، فسيظل التلاعب بدماء الفلسطينيين والاستهانة بتضحياتهم سيدَي الموقف لدى عدوّ شرس. ولكنّ المشكلة في جوهرها هي أن “وحدة الساحات” التي أطلقتها حركة الجهاد لمواجهة عدوان يحاول يومياً اجتثاث الفلسطينيين والعرب من جذورهم، تتعارض مع “وحدة ساحات” أخرى يؤمن بها الإخوان المسلمون ويعملون وفق مقتضياتها في كل مفصل تاريخي حاسم وفي الاستعداد والتهيئة لمثل هذه المفاصل. ومع أن حركة الجهاد قد دخلت ساحة القتال في أيار/ مايو ما قبل الماضي دعماً للفصائل الأخرى التي كانت على رأس الاستهداف في غزة، فإن هذه الفصائل لم تؤازر الجهاد في صدّها للعدوان إلا بالكلام والتصريحات.
والسبب الأساس في هذا هو أن الإخوان المسلمين يؤمنون بوحدة ساحات “أخونتهم” لا بوحدة الساحات الوطنية، سواء في فلسطين أم في أي مكان آخر، كما أنهم يقولون ما لا يفعلون، وفقاً للأجندة الإخوانية ومقتضياتها. ولنُعِد إلى الذاكرة أنهم ادّعوا الوقوف ضد أوسلو ثم ما لبثوا أن دخلوا الانتخابات بناءً على أوسلو، كما تصرّفوا في جميع الساحات بناءً على أولوية الأجندة الإخوانية متّخذين من شعارات وتصريحات تدغدغ مشاعر الجماهير غطاءً للسير بمخططاتهم وتنفيذها بالتعاون والتنسيق مع إخوانهم على كل الساحات.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن وحدة الساحات الإخوانية تتناقض جذرياً مع مصلحة الشعوب ورخائها وتحقيق أهدافها في العيش الحرّ والكريم، لأن وحدة الساحات الإخوانية لم تنتج إلا الغدر لشعوبنا، من مصر إلى تونس إلى الجزائر وليبيا وسوريا والعراق. وفي الوقت الذي يتزعم فيه إردوغان الإخوانية العثمانية، فقد عمل على خلق معضلات أمنية وعسكرية وتنموية للعراق وسوريا وليبيا، كما أنه يؤدّي وفق عقيدة الغدر هذه دوراً مزعزعاً للاستقرار في ناغورنو كاراباخ وفي البلقان وفي الإيغور، وفي كل الساحات التي يمتلك فيها منحدرين من أصل تركي.
فقد بدأ الإخوان أعمالهم التخريبية والتدميرية في سوريا منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، واستنزفوا طاقات وكوادر وإمكانات، وخرجوا أيضاً من كبوتهم في العقد الثاني من هذا القرن ليستأنفوا تواطؤهم ضد المصالح الوطنية العليا، وليغدروا بالأرض التي أنجبتهم وبالموارد التي استخدموها فقط كي يغدروا بها، وكان دورهم واضحاً مع الإرهابيين في ساحات مختلفة من البلاد. كما حاول الإخوان العبث بأمن الجزائر التي ضحّت بمليون شهيد من أجل استقلالها، فحاولوا العبث بها وإضعافها من الداخل. وحين تمكّنوا من مصر، ولفترة وجيزة، كان قطع العلاقات مع سوريا هو القرار الأول الذي اتّخذوه. وها هي تونس تعمل منذ سنوات للتخلص من تغلغلهم في ثنايا السلطة، بعد أن توصلت إلى اقتناع بأنهم أخطر من تواجههم في البلاد.
وفي التأمل بنتائج سياساتهم في كل بلداننا، من مصر إلى فلسطين وسوريا وليبيا والجزائر، نستنتج تناغماً عميقاً وحقيقياً بين مخططاتهم وأهدافهم ومخططات وأهداف العدو الصهيوني الذي يعمل على إحكام السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، لا على فلسطين فقط. ففلسطين ليست سوى المقدمة والنموذج الذي يعمل هذا العدو لتطبيقه في محاولاته الجارية لمصادرة القرار في بلدان عربية عديدة، ولكن بأساليب وتكتيكات مختلفة. ومن هنا فإن وحدة الساحات، لا في فلسطين فقط، بل على امتداد هذا الوطن العربي الناطق بالضاد، أصبحت ضرورة لا غنى عنها لتقويض المخططات الإخوانية العثمانية المتصهينة، التي تنوّع أساليبَها وتوحّد ساحاتِها ضدّ أمننا وأمن أجيالنا وسلامتهم ومستقبلهم.
وفي هذا الصدد لا بد من دراسة كل أقسام تمظهرات لعبة الجيكسو، ووضع عناصرها واحداً قرب الآخر، كي تكتمل الصورة، لأن المعركة التي فرضوها علينا يقومون بتنفيذها بشكل متقطع ومختلف في الزمان والمكان، ولكنّ هذا يجب أن لا يحجب بصيرتنا عن وحدة المايسترو ووحدة الهدف ووحدة الاستهداف وإن اختلفت الأساليب والأزمان، كما يجب أن يدفعنا إلى توحيد الخطى وتمكينها، ووضع النقاط على الحروف، وتسمية الأعمال والأطراف بمسمياتهم التي يستحقونها من دون مجاملة أو مداهنة، لأن الحسم في المفهوم والموقف والرؤية للعدو الحقيقي وللذات أيضاً هي العناصر الكفيلة بتمكين الجميع من خوض معركة متكافئة مع العدو وتحقيق النصر الأكيد والمؤزّر عليه. في عمل على هذا المستوى من البعد الاستراتيجي والأهمية الوطنية والتاريخية، لا بدّ من استحضار كل خيوط المعادلة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وعلى امتداد الجغرافيا وعلى اختلاف التجارب وتنوّعها، والتي يستخدمها العدو لذرّ الرماد في العيون. إذا كانت الاعتداءات والحروب المتقطعة ضدنا، وحروب بعضنا ضد بعض، تخدم أهداف العدو الاستراتيجية، فلا بدّ لنا من أن نضع كل هذه الاعتداءات والمعارك في ميزان واحد، كي نستخلص من خلال دراستها وتقييمها الخطوات الأساسية الواجب علينا اتخاذها؛ أي إن وحدة ساحاتنا يجب أن لا تكون شعاراً مؤقتاً، وأن لا تقتصر على فلسطين فقط أو على معركة واحدة فقط في مواجهة “وحدة ساحاتهم” التي تميّزت بالغدر وتدمير الأوطان وتقسيم المواجهات عبر عقود وأماكن مختلفة، مع الإبقاء على المخططات والأهداف.