صدح صوتها عبر الهاتف وهي تجهش بالبكاء: لقد فازت المغرب، فاز بلد عربيّ وترشّح للمرّة الأولى بلد عربيّ إلى نصف نهائيات كأس العالم فيما كان المغاربة والعرب يرفعون علم فلسطين في كلّ المراكز والساحات، كان العرب جميعاً من المحيط إلى الخليج يصلّون للفريق المغربي كفريق عربي، وشعر الجميع أنّ هذا الفريق يمثّلهم جميعاً وأنه عربيّ أولاً وفلسطينيّ أولاً، والناطق بلغة الضاد والمعبّرَ عن مشاعر ما يقارب نصف مليار إنسان.
إنّ أول ما يجب استنتاجه من هذه الوقفة العربية الشعبية الصادقة والنابضة بالعروبة الحقيقية التي لا تموت هو أنّ ما يروّجه العدوّ الصهيوني من انتشار أثره وتأثيره في أرضنا العربية المقدّسة ما هي إلا أضغاث أحلام يريد أن يقنع من خلالها ضعاف النفوس بأنّه لا مستقبل لهم ولأمتهم ولا امتداد ولا علاقات ولا تأثير دوليّ إلا من خلاله.
هذا الوهم الذي زرعه في نفوس الكثيرين والذي يهدف إلى استلابهم إيمانهم بحضارتهم وقوّتهم ووحدة مصيرهم يجب أن ندفنه جميعاً ونعده من المخلّفات التي انزوت بانزواء عام 2022، وأن تكون مجريات الشهر الأخير من هذا العام حافزاً للجميع للتحرّك بشكل مختلف وبطريقة تليق بتاريخنا وحضارتنا ومقدّراتنا وآمال شعوبنا.
لعلّ من جميل الصُّدف أن تعقد القمة العربية – الصينية في اليوم نفسه الذي كانت قلوب العرب تهفو إلى انتصار ولو على فريق كرة قدم يثبت لهم إنهم موجودون وقادرون، وأنّ رسائل الإحباط التي لا يكفّ العدوّ عن تسريبها لهم عبر آلاف الوسائط إنما تهدف إلى هزيمتهم نفسياً وتثبيط هممهم، وإقناعهم بأنهم غير قادرين على فعل شيء إلا إذا قرّر هذا العدوّ أن يمدّ يد العون لهم.
في الوقت الذي كانت الأعين مسمّرة على الشاشات، والقلوب تهتف لفريق عربيّ، كان الرئيس الصيني يتحدّث للمرة الأولى وبهذه الصراحة عن حقّ الفلسطينيين في أرضهم، وعدم شرعية المستوطنات، وضرورة إحقاق الحقّ في فلسطين وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، والمهمّ أنّ هذه هي المرّة الأولى التي تولي الصين كلّ هذه الأهمية للعلاقات العربية – الصينية، وتتحدّث عن تجذّر الحضارتين للأمّتين العربية والصينية، وآفاق التعاون اللامحدود الواعد بين هاتين الأمتين.
هذا الدرس يجب ألا يغيب عن الأذهان، وهو أنّ العرب، وفي كلّ مفصل أو أزمة، تنبض قلوبهم بمشاعر عربية صادقة تعبّر عن انتماء حقيقيّ إلى العروبة بعيداً ممّا يقوم به بعض حكامهم، وعمّا يدّعيه ويلهج به أعداؤهم. ولكن الأهمّ هو ترجمة هذا الدرس إلى خطوات عملية تحافظ أولاً وقبل كلّ شيء على لغة الضاد في مدارسهم وجامعاتهم ومنتدياتهم، وتدرك وتوقن أنّ الخلاص السياسي والاقتصادي والمستقبلي للعرب جميعاً إنما يكمن في التفاتة بعضهم إلى بعض كأمّة مع كلّ المشتركات بين أبنائها، ومع كلّ الآفاق الغنية التي تفتحها مثل هذه الالتفاتة الجادّة.
فنحن نلاحظ ونراقب أنّ كل من يبتغي إقامة علاقة مع بلد عربي يطمح إلى علاقة مع العرب جميعاً، لأنّ مردود هذه العلاقة سيكون أضعافاً مضاعفة عن أيّ علاقة مع بلد عربيّ بمفرده. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ التكامل بين الدول العربية يُعد مصدر قوّة فريدة لهم جميعاً؛ فالعرب يشكّلون كتلة إقليمية وازنة جداً تمتلك من التاريخ والجغرافية والاقتصاد وحوامل الطاقة ما يجعل منهم رقماً صعباً على الساحتين الإقليمية والدولية. وإن كنّا اليوم نتحدّث عن عالم متعدّد القطب نذكر فيه الغرب والصين وروسيا، فإنّ اتباع نهج عربيّ حقيقيّ سيجعل من الوطن العربي قطباً إقليمياً وازناً لا تتجرّأ قوّة أخرى إقليمية أو دولية على معاداته أو الاستهانة بسيادته ومقدّراته وهو ما لا يمكن أن ينجزه أيّ بلد عربيّ بمفرده.
من ناحية أخرى، نشهد وباستمرار المحاولات الصهيونية ومن لفّ لفيفهم لتقسيم العرب إلى مسيحيين ومسلمين، وسنّة وشيعة، وإلى ما هنالك من تسميات لا تعني شيئاً لأبناء هذه الأرض الذين عاشوا عليها متآلفين متحابين آلاف السنين، وتطوّرت لهجاتهم ولغاتهم ومعتقداتهم، وكان هذا التنوّع مصدر غنى لهم جميعاً ومصدر سعة أفق، وتميّز وإبداع، وجمال في العيش والطقوس والإنجاز. وقد بدأت هذه الحملات على نحو مركّز مع الحرب الأميركية على العراق حين سمعنا للمرّة الأولى على الـ”بي بي سي” عبارة: “المثلث السنّي”، التي جرحت أسماعنا ومشاعرنا، ثمّ أخذت إذاعاتهم وسردياتهم تتحدّث عن سنّة وشيعة. والمنطق هو لو لم يكن العيش المشترك هو الميزة التي يؤمن بها الجميع، والعقيدة التي يعتنقها الجميع، لما استمرّت هذه المذاهب والأديان والأعراف والتقاليد، ولما صمدت في وجه المتغيرات من الأزمان.
عدوّ العرب وحده هو الذي يبتدع الخطّة تلو الأخرى كي يفتّت الجسد العربيّ ويوهم العرب بأنهم ليسوا أمة واحدة، وأنّ الأمازيغية والسريانية والآشورية دليل على ذلك، بينما يبقى هذا التنوّع دليلاً على التلاقح الصحّي والسلمي والغنيّ بين اللغات والأعراق والأديان والحضارات، ما أدّى إلى تطوّر الجميع وتميّزهم في مختلف المجالات.
حين يؤسّس الصهاينة، كما فعل الصهيوني جلعاد سيفيت، مدرسة مجانية للغة العربية العامية، فذلك لأنه يريد أن يوجّه ضربة قاصمة إلى العروة الوثقى التي تجمع العرب جميعاً، وهي اللغة العربية الفصحى الجميلة والسهلة والمحبّبة، وأغنى لغات الأرض في الاشتقاقات، وهو ما ضمن استمرارهم فضلاً عن كونها اللغة التي اختارها المولى العزيز لقرآنه الكريم، الذي يمثّل دستوراً جميلاً للمجتمع والخلق الرفيع والعمل الصالح.
كلّ ادعاءاتهم الحرص على الأعراق والأقليات في هذا الوطن العربي، إنما تهدف إلى شيء واحد ألا وهو تفتيت صلة العروبة، التي هي الحاضن الثقافي والنفسي والحضاري والتاريخي لكلّ من عاش على هذه الأرض، وأبدع في النهل من تراثها والإضافة إليه. يقول الله عزّ وجل: “ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم”، فكيف ينقلب هؤلاء على آيات الله ليجعلوا من الاختلاف سبباً للبغض والكراهية والحروب، فيما هي آية علينا أن نفهمها وأن نستمتع بها، وأن تشكّل مصدر غنى للجميع.
الدعاية الصهيونية المستمرّة والإعلام المغرض عدوّان خبيثان ينسلان في كلّ صفوفنا ومواقعنا، وإذا كانت الأسابيع الأخيرة في أحداث المونديال، والقمّة العربية – الصينية قد أودعا شيئاً راسخاً وثابتاً فهو أنّ العروبة حيّة وحاضرة في ضمير العرب جميعاً، وكلّ ما علينا فعله هو الاستثمار الذكي في هذه القيمة السياسية الاقتصادية المجتمعية القادرة جداً على إعلاء شأن العرب جميعاً بين الأمم، وتسليمهم مقاليد تعيد إليهم بعض أمجاد تاريخهم، وتحوّلهم إلى لاعب يُحسب له حساب إقليمياً ودولياً.