علّ الإعياء الذي يشعرُ به كثيرون اليوم وخاصّة في وطننا العربي ناجم عن تشظّي الواقع ومواجهة أحداث لا مألوفة ولا مسبوقة مع كلّ مطلع شمس واختلاط السرديات وتناقضها في تفسير المفاجآت اليومية المذهلة والمجنونة. ذلك لأنّ الأهداف المرسومة على عجالة لكلّ حدث نشهده تتجاوز الحدث ذاته، وتأخذ في الحسبان الارتدادات في الغرب والشرق والجنوب وانعكاساتها على ما مضى من أحداث وتفاعلات قريبة، وعلى ما قد يحدث في القادم من الأيام. بهذا الموقف أصبحت أجساد الأطفال والنساء والشيوخ وكلّ المدنيين الأبرياء في فلسطين المحتلّة وقوداً ليس للأحداث في فلسطين أو في الإقليم فقط، وإنما لانعكاسات الحرب الدائرة في أوكرانيا على التوازنات العالمية والتنافس بين الشرق والغرب والمؤشرات التي أفرزتها قمة البريكس في الهند وقمة آسيان، ومن ثمّ قمة الـ G20 وكلّ دلالات الحضور والغياب والفعل وردّ الفعل إضافة إلى كلّ التحركات في المحيط الهادي وبحر الصين والتحالفات الجديدة هناك بين أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وبعض الجزر الفيليبينية.
أي أنّ حرب الإبادة الصهيونية ضدّ العرب التي بدأت منذ عشرين يوماً ونيّف في غزّة وفي الضفة، والوحشية واللاإنسانية المعهودة عن الصهاينة منذ أكثر من 75 سنة دموية من الوجود الصهيوني على أرض فلسطين، وإلى أحداث طوفان الأقصى، حيث يرزح في معتقلاتهم آلاف الرهائن الفلسطينيين، واستهداف طائراتهم الحربية الأمريكية الصنع للمشافي والمدارس والمساجد والكنائس، وقتل الصحفيين أو أسرهم، واغتيال الكوادر الطبية في خرق غير مسبوق للقانون الدولي الإنساني ولكل قواعد الحروب، واستقدام حاملات الطائرات الأمريكية لسفك دماء أطفال فلسطين، والزيارات الموتورة من الأوروبيين، وزيارة بايدن ومسارعته لتخصيص المليارات من الأسلحة الفتاكة لقتل عشرات الآلاف من الأطفال والأمهات والمدنيين العُزّل، ليشهدوا بشاعة التطهير العرقي، كلّ ذلك لم يكن فقط لضمان انتصار جيش الاحتلال على مجموعة من المقاتلين المتشبّثين بأرضهم والمدنيين المحاصرين منذ سنوات في أكبر سجن مفتوح شهده القرن الواحد والعشرين؛ إنما كان لردع كلّ من انتعش بانبلاج فجر الخلاص من العبودية الاستعمارية الغربية، من الشرق والجنوب، يدعو إلى مصير مشترك للبشرية، ويتحدث عن نموّ متوازن بين البلدان، وضرورة السعي لازدهار الجميع، ومحاربة الفقر في كلّ مكان، واحترام سيادة الدول صغيرها وكبيرها، ووضع حدّ لنهب ثروات شعوب آسيا وأفريقيا من قبل الطبقة الرأسمالية الحاكمة منذ 500 سنة لدول الغرب الاستعماري الذي مرد على نهب ثروات هذه الشعوب، وأبقى سقف الفقر مطبقاً عليها من خلال سياساته العنصرية، واختلاق الحروب والنزاعات وحرمان هذه البلدان من القدرة على المقاومة والتحرّر والازدهار والتنمية.
كلّ هذه الجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية ضدّ الفلسطينيين، والمجازر التي ارتكبتها لتهجيرهم واحتلال أرضهم، والمجازر الحالية في غزّة والضفة تتناقض بشكل صارخ مع القانون الدولي الإنساني، ومع كلّ قواعد الحروب والنزاعات المعمول بها في العالم على مدى عقود وقرون، ومع ذلك تنبري دول غربية برؤسائها ورؤساء وزرائها، تدّعي الديمقراطية وتصمّ آذان البشر بسردياتها الممجوجة عن حقوق الإنسان، تنبري لتشهر سيفها مع المعتدي ضدّ الضحية، وليقلب إعلامها الرسمي الحقائق رأساً على عقب دون خجل حتى من الصور الدامية التي تدمي القلوب قبل العيون، والتي لا مثيل لقسوتها ووقعها على كلّ نفس سوية في القرن الواحد والعشرين. وحين يتجرّأ الأمين العام للأمم المتحدة أن يذكر بجملة واحدة معاناة شعب بأكمله على مدى سبعين عاماً من احتلال استيطاني بغيض (وهذه كلماتي) لا يتورّع ممثل العصابة المجرمة، وزير خارجية الكيان الصهيوني، من توجيه كلمات نابية إليه، ومطالبته بالاستقالة، وتُردف يدعوت أحرنوت، جريدة الكيان، ذلك بمقال كتبه ريتشارد كيمب، الجنرال البريطاني المتقاعد، بعنوان ((غوتيريش الآن جزء من المشكلة)) وتتلقى الأمم المتحدة وأمينها العام سيلاً من الإهانات والتهديدات والسرديات التي تتهم الأمم المتحدة بالانحياز للفلسطينيين، وتزوير التاريخ، متناسين عشرات القرارات الأممية التي سعت لإيجاد حلّ عادل ودائم للقضية الفلسطينية، ولكنها منسية في الأدراج نتيجة تعطيل الولايات المتحدة الدائم والمستمرّ لهذه القرارات.
في هذا المشهد الأممي والهمسة الناعمة من غوتيريش نصرة للحقّ والمظلومين، وخروج ردود الأفعال الوحشية عن أيّ ميزان ومقدار اتضح ليس فقط حجم الرّدع الذي حاول الغرب ممارسته على العرب والمسلمين، وعلى الشرق والجنوب، بل اتّضح أيضاً حجم الترهيب لكلّ من يتجرّأ أن يقول كلمة حقّ عن الإرهاب اللا مسبوق الذي مارسه الصهاينة بحقّ المدنيين والأطفال والجرحى والكوادر الطبية والإعلامية والمستشفيات والكنائس والمساجد ومراكز الإيواء، وضدّ الأفران المنتجة للخبز، والطرق الموصلة للدواء، في ممارسات هي بدون منازع الأكثر وحشية ليس منذ الحربين العالميتين فحسب، وإنما منذ حروب الإبادة التي مارسها الإنسان الأبيض بحقّ الشعوب الأصلية في الأمريكيتين وأستراليا وتمكّن من محوهما تماماً من الذاكرة والتاريخ الإنسانيين.
إذاً حاملات الطائرات التي أرسلتها الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط لم تكن تهدف فقط إلى إسناد كيان مدجّج بالسلاح والطائرات ضدّ مقاومين يستعملون أسلحة بسيطة محلية الصنع، وإنما كان ردّاً على كلّ التحرّكات من الشرق والجنوب التي سبقت هذه الأحداث، وتطميناً لكلّ المتواطئين والمتآمرين مع الغرب ضدّ أوطانهم وشعوبهم أنّ الغرب قادر على إسنادهم وإنقاذهم في لحظة الصّفر، وفرصة لإعادة بثّ التعاضد والتحالف في غرب متهالك من الداخل اقتصادياً واجتماعياً، ومُفلس أخلاقياً وحضارياً بعد أن انكشفت كلّ ألاعيبه وأكاذيبه، وبدأت شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بالتمرّد عليه، واتخاذ الخطى التي توائم مصالحها ورفض التبعية لأوامره وتحقيق مصالحه.
كان مفهوم الرّدع وحتى هذا المفصل التاريخي يُستخدم لردع دول أو أطراف من أجل عدم شنّ حرب، أو القيام بعمل معاد، أمّا الردع المُرتجى من كلّ مظاهر القوة العسكرية والسلاح والتعاضد لإسناد كيان عنصري غاضب فقد كان هدفه تبرير ودعم إرهاب وحرب إبادة وتطهير عرقيّ بحقّ مدنيين عُزّل لا حول لهم ولا قوّة، وترهيب أصحاب الضمائر والكلمة والقلم، وأصحاب النفوذ والقرار حتى من قول كلمة حقّ أو تبنّي سرديّة على الأقلّ تُنصف هؤلاء الضحايا وتُسمّي الأشياء بأسمائها. وهكذا فإنّ فعل الإرهاب الأمريكي – الصهيوني المشترك الذي نجم عنه إلى حدّ الآن أكثر من عشرة آلاف شهيد ثلثهم من الأطفال والأمهات وأكثر من مليون نازح داخل غزّة مع قطع سبل الغذاء والماء والدواء عنهم، تمّ استكماله من خلال ترهيب إعلامي منظّم وضغوط سياسية مارسها المسؤولون الأمريكيون على مسؤولين في المنقطة والعالم لعدم إدانة هذا الإرهاب، بل لإدانة الضحية والتزام الصمت المُطبق حيال كلّ هذه المجازر الوحشية التي يَندى لها جبين الإنسانية، والتي هي وصمة عار بحقّ كلّ مرتكبيها والصامتين عنها.
ومع ذلك، ورغم كلّ هذه الجهود الصهيونية الخبيثة، فقد نجح أصحاب الحقّ في إيصال ولو قطرات من الحقيقة من خلال وسائل التواصل إلى العالم، وتحرّك أصحاب الضمائر الحرّة في بقاع الأرض المختلفة، وفي جميع القارّات حاملين علم فلسطين دعماً للحقّ وتعاطفاً مع مظلومية استثنائية في هذا القرن. وهنا بدأ الاستهداف يطال كلّ من تسوّل له نفسه برفع صوته إعلاءً للحقّ ونصرةً للمظلومين بغضّ النظر عن جنسيتهم وانتمائهم. وبهذا مارست الأنظمة التي تدّعي الديمقراطية أبشع أنواع القمع والترهيب وكمّ الأفواه تماماً مثل الترهيب الذي مارسوه على شعوبهم ووسائل إعلامهم بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا؛ إذ أصبح ممنوعاً منعاً باتاً في الإعلام الغربي مجرّد التساؤل عن ماهيّة هذه الحرب وأسبابها وأحقيتها وأهدافها وما هي الخلفيات التاريخية التي قادت إليها، وكأنّ الإعلام الغربي تقدّم على يد الصهاينة ليكون مثيلاً لإعلام ستالين أيام الـسور الحديدي.
وفي فلسطين اليوم، كما في روسيا وأوكرانيا الأمس، من الممنوع أن تعود إلى التاريخ أو الذاكرة، لأنّ السياق التاريخي يدينهم ويدين أفعالهم، وهذا ما ذكره الأمين العام للأمم المتحدة بجملة واحدة عن السياق التاريخي لمعاناة الشعب الفلسطيني، والقهر الذي نتج عنه هذا الغضب فقامت الدنيا ولم تقعد لأنه حرّك وتراً حسّاساً يعرفون خطورته عليهم وخطورة التركيز عليه في جرائمهم وتصنيفاتهم، فأضافوا إلى دعمهم التاريخي للإرهاب والحروب دعماً آخر مستجدّ وهو دعم الترهيب والقمع والاضطهاد الفكري والسياسي، وكمّ الأفواه وطمس الحقائق ومنع أي حريّة للرأي كي يستمرّوا في غيّهم وطغيانهم، وتبقى الدول والشعوب فريسة لأطماعهم ونهبهم واحتلالهم واستيطانهم ووحشيتهم.
ولا شكّ أنّ الرّد الأمثل على هذه الأساليب القديمة الجديدة من الردع والإرهاب والترهيب والقمع والاضطهاد يكمن في التركيز على توثيق جرائمهم بدقّة، ونشر الصورة والرقم، وجردة الحساب وربطها بتاريخهم، واستذكار كلّ جرائمهم بحقّ الشعوب الآمنة المطمئنة. ومن الأهمية بمكان تشكيل فرق توثيقية اليوم قبل الغد تعمل يداً بيد مع المقاومين الثابتين والصابرين، وتضمن سلامة ما توثّقه وإيداعه في أكثر من مكان، وإيصاله إلى أصحاب الضمائر والأقلام الحرّة في أصقاع الأرض كي يقول العالم كلمته ولو بعد حين في هذا الهولوكوست المؤلم الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني اليوم، ولينكشف للعالم كلّ مسار الظلم الذي مارسه الصهاينة بحقّ البشرية منذ حروب الإبادة الأولى، بالإضافة إلى حروب الغرب في فييتنام وأفغانستان والعراق وليبيا وسورية واليمن، ناهيك عن ممارساتهم وجرائمهم ضدّ القارّة السمراء. وبما أنّ حضور التاريخ هو جُلّ ما يخشوه فيجب أن يكون حضور التاريخ هو سلاحنا الأمضى، ونشر الحقائق وروابطها التاريخية مدعومة بالأرقام والوقائع لنقلب السحر على الساحر، ونبطل مفاعيل دعمهم وإرهابهم وترهيبهم بسرديّة علمية واثقة ومُحكمة تُعلي كلمة الحقّ مرة وإلى الأبد، وتخلّص العالم من آثامهم وأكاذيبهم وتضليلهم.