حين نلت شهادة الماجستير من جامعة «ورك» في المملكة المتحدة البريطانية، بادرت الجامعة وقدمت لي مقعداً لاستكمال دراسة الدكتوراه، وحين قابلت رئيس قسم اللغة الإنكليزية لأعلمه عن رغبتي بمتابعة الدراسة سألني: «ما هو الموضوع الذي تريدين البحث فيه لنيل شهادة الدكتوراه»؟ أجبته: «أودّ أن أبحث في تأثير الشعراء الرومانسيين وخاصة الشاعر شيلي على الحركة التشارتية 1848، (وهي أول حركة عمالية في العالم)، رفع حاجبه واستدار ليحدق في ملامحي بملء عينيه وقال: «بحق السماء ما علاقة الشعراء الرومانسيين بالحركة التشارتية»؟ قلت: «هذا ما أطمح أن أكتشفه من خلال البحث».
وبعد سنوات من البحث والتدقيق في مكتبة المتحف البريطاني ومكتبة مانشستر وكولونديل وبعد قراءة أعمال وجرائد الحركة التشارتية، التي ناضلت من أجل إنصاف العمال والطبقة المستَضعَفَة، اكتشفت أن الشعراء الرومانسيين وخاصة الشاعر بيرسي بيشي شيلي (1792-1822) كان ملهماً للحركة حتى إن قصيدته «كوين ماب» كانت تسمى «إنجيل الحركة التشارتية»، واكتشفت من خلال التقصي والتحليل أن الشعراء الذين أطلق عليهم لقب «الرومانسيين» كانوا في غاية الواقعية وغاية الانخراط في الأمور الحياتية لأبناء جيلهم حتى إن الشاعر لورد بايرون قد قتل مع الثوار في ساحة الوغى في اليونان عندما كانت تقاتل من أجل نيل حريتها من الاحتلال التركي، أما الشاعر شيلي فقد طُرد من جامعة أوكسفورد نتيجة أفكاره الراديكالية الثائرة ومطالبته بإنهاء الاحتلال البريطاني لإيرلندا، وهكذا فإن إضفاء لقب «الرومانسيين» على الشعراء المعنيين جداً بتغيير الواقع والثورة على الظلم ما كان إلا أمراً مقصوداً لإبعاد أي احتمال لدراسة أشعارهم والتعمق بها من المنظور السياسي والذي كان أحد أهم أهدافهم.
واستخدام التسميات للتغطية على المعنى بدلاً من الإفصاح عنه، أمر مارسته جميع الشعوب في لغاتها الخاصة بها، ذلك لأن اللغة هي الأداة الأولى للإيحاء بالمعنى، والأسماء هي المؤشر الأول للدلالة على المسمى، وأطلق العرب على هذا العلم اسم «علم الكلام» وتمّ استخدامه من قبل فرق ومذاهب وأشياع لإقناع الآخرين بوجهات نظرهم والانتصار للرسالة التي يريدون نشرها، والأمثلة أكثر من أن تحصى في تاريخنا العربي، ولعلّ أبرزها كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة» وردّ ابن رشد عليه في كتاب «تهافت التهافت».
أما اليوم وخلال العقود الماضية فقد استخدم الغرب وأدواته في المنطقة «علم الكلام» لتغيير قناعات الشعوب بحقوقها وذلك بإسداء صفات على أحداث تتلاءم مع وجهة نظرهم الأقلويّة وأهدافهم الاستعمارية، معززين هذا الاستخدام بانتشار إعلامي دولي حيث يتمكن الغرب من تغيير خرائط وهويات دول ومستقبل شعوب من دون أن يلجأ إلى القوة العسكرية أحياناً وحتى إذا اضطر للجوء إلى ذلك فإن المعركة اللغوية التي يخطط لها ويقودها، تشكل قاعدة متينة له وتوفّر عليه الكثير من الجهد والمال، والمشكلة هي أن الدول الاستعمارية الغربية المهيمنة على الساحة الدولية منذ بداية عصر الاستعمار، الذي يسمونه عصر الاكتشافات الجغرافية، وتعاظمت هذه الهيمنة منذ الحرب العالمية الثانية وبلغت أوجها منذ تفكيك الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، تكاد تكون الأكثر قدرة واهتماماً بهذا المجال واستخداماً له سواء في أوقات السلم أم أوقات الحرب، أما القوى الأخرى المتضرّرة من هذه السيناريوهات والاستخدامات، فتخوض معركتها العسكرية أو التقنية من دون أن تولي الاهتمام الكافي للمعركة اللغوية ومعركة الأسماء والمسميات.
فبعد أحداث الحادي عشر من أيلول، مثلاً، أصبحت صفة «إرهابي» يطلقها إعلام الغرب المتصهين حصراً على المسلمين ولا تستخدم لوصف كل أعمال الإرهاب التي يقوم بها الكيان الصهيوني من قتل للأطفال والشباب بل يستخدمون من أجل ذلك صيغة المبني للمجهول وكأنّ القاتل غير معروف، بل ومع استهداف الشباب الذي يدافع عن حقه في أرضه يطالعنا الإعلام المتصهين بمقولات تخوّفه من انتفاضة هؤلاء الشباب العزّل وهو الذي يمتلك أعتى آلة عسكرية ويقوم بقنصهم وأسرهم وإرهابهم وقتلهم بمن فيهم الأطفال، كمحمد الدرة مثلاً.
في المعارك الدائرة اليوم بين روسيا من جهة والتحالف الغربي من جهة أخرى على أرض أوكرانيا وفي الفضاءات الأخرى الاقتصادية والسياسية وغيرها، نلحظ الحِرفيّة العالية للإعلام الغربي في تناول هذا الموضوع وإبعاد الشبهات عمن يقومون به فعلاً على أرض الواقع من انتهاكات للقانون الدولي ومن جرائم حرب وإبادة جماعية وتعذيب وتفجيرات واغتيالات والتي تدلّ عليها دفعات الأموال والأسلحة والمرتزقة بما لا يدع مجالاً للشك على الإطلاق في خوضهم هذه الحرب بكل ما أوتوا من قوة ضد روسيا، ونتابع اللغة التي يستخدمونها عن دعم الشعب الأوكراني الذي يدفع ثمناً باهظاً لهذه الحرب والذي هو المتضرّر الأكبر منها، كما يضعون المعادلات في الإعلام عن الدفاع عن «الديمقراطية» ضد «الديكتاتورية» في حين حقيقة الأمر هي أن الغرب يبذل قصارى جهده لإبقاء قبضته محكمة على ثروات العالم، ويسيل لعابه على الثروات الروسية من نفط وغاز ومعادن، ولإبقاء هيمنته وسطوته على الدول والشعوب لأنه يعلم علم اليقين أن روسيا تمثّل مواقف الشعوب التي ضاقت ذرعاً بالهيمنة الغربية المتعطشة للحروب الاستعمارية.
ومنذ بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في شباط الفائت، نلاحظ أن التحركات تعبّر عن إستراتيجية عميقة لتطويق الصين وعدم السماح لروسيا بالانتصار، وحتى على حساب الشعوب الأوروبية وصحتها ولقمة عيشها، فزيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان، والآن زيارة نائبة الرئيس الأميركي كاميلا هاريس إلى كوريا الجنوبية، وكل التحركات الأميركية سواء في تجمع «أوكوس» الذي يضم أميركا وبريطانيا وأستراليا، أم في تشديد التحالف مع اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، كلها مؤشرات واضحة لإستراتيجية إخماد صعود الشرق بقيم وتوجهات وخطط مختلفة تماماً عمّا يريده الغرب وما يمثله أيضاً.
وفي الحدث الأخير في تفجير خط غاز «السيل الشمالي» نرى أن الإعلام الغربي تجاهل بمعظمه تهديداً أطلقه الرئيس الأميركي جو بايدن منذ أسابيع باستهداف «السيل الشمالي» وأخذ يركز على اتهام الاتحاد الروسي، مع أن التفجير وقع في منطقة تسيطر عليه المخابرات الأميركية ومع أن المنطق يقول إن لا مصلحة لروسيا أبداً بتفجير هذا الخط ومع أن تصريح وزير خارجية الولايات المتحدة يشي بأحد أهداف دولته في تفجير هذا الخط، وهو ألا تعتمد أوروبا بعد اليوم على روسيا، وأن الولايات المتحدة ستعمل على استغلال حاجة الدول الأوروبية من النفط والغاز لتبيع لها من نفطها وغازها ولتفرض المزيد من هيمنتها على حلفائها.
لنتخيل أن ارتدادات الحرب في أوكرانيا من تضخم في أوروبا وانخفاض قيمة اليورو والجنيه الإسترليني وموجة الغلاء اللا مسبوقة قد حدثت في دول أخرى، ولأسباب لا تروق للحكومات الغربية، فما هي ردة الفعل التي كنا سنراها في ذلك الحين؟ وما هي السردية التي سيستخدمها الإعلام الغربي لوصف هذه الحالة المزرية والأسباب التي قادت إليها؟
منذ بداية الثورات الملونة، وكانت أولاها الثورة الملونة في أوكرانيا، والغرب يضفي على من يقومون بهذه الثورات صفة «المعارضة» أو «الديمقراطيين» أو «المطالبين بالحرية» و»حرية المرأة» أو «الثائرين على الاستبداد والديكتاتورية» أو «المعارضة المسلحة المعتدلة» مع أنهم لا يمثلون سوى أدوات لاستكمال واستمرار سطوة الغرب على قرار ومقدرات الشعوب الأخرى؛ فلماذا لا نقوم نحن بتسمية الأشياء بالأسماء التي تعبّر فعلاً عن المحتوى الذي نفهمه ونراه؟ وخاصة أن الثورات الملونة قد برهنت منذ أول ثورة ملونة في أوكرانيا، على أنها أسلوب اختراق غربي متصهين لمجتمعاتنا وشعوبنا، وفي هذا الإطار يجب عدم استرضاء الغرب وعدم الاهتمام أبداً بمسمياته لأنها تخدم مصالحه وإستراتيجيته التي تستهدفنا بل يجب أن نصيغ الأسماء التي تعبر عن الواقع وعن قناعاتنا وانتمائنا وإيماننا بأرضنا وشعوبنا ومستقبل أجيالنا، وألا نستحيي من تشخيص العمالة ووصفها بما تستحق من أوصاف الخيانة للأرض والمبدأ والوطن، فلهم لغتهم ولنا لغتنا ولهم مصالحهم ولنا مصالحنا، ولابدّ للغتنا وأسمائنا من أن تعكس المسمّيات التي تعبّر عنا بدلاً من تلك التي ترضي من يستهدفنا ويعمل على إضعافنا والإيقاع بنا وبشعوبنا وبلداننا.