إشراقة موسكو
أن تصل إلى موسكو في أعقاب العدوان التركي السافر على السيادة السورية وعلى الطائرة الروسية التي كانت تستهدف الإرهابيين، أي أن تقبض على خميرة السياسة الروسية واهتماماتها الداخلية والإقليمية والدولية، وأن تطّلع على حقيقة مشاعر السياسيين الروس وتفكيرهم، إضافة إلى الانطباعات التي تأخذها من غير السياسيين هنا وهناك في حمأة ردود الفعل الروسية على الجريمة البشعة التي ارتكبها أردوغان والإرهابيون التابعون له بحق الطائرة والطيار، تكشف أيضاً سرّ قوة الدبلوماسية الروسية وسرّ صعود نجم السياسة الروسية في العالم بسرعة قياسية.
ها هو الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، الذي كان يتخذ مواقف مغايرة تماماً منذ عدّة أشهر فقط، يحطُّ رحاله في موسكو ليناقش مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سبل مكافحة الإرهاب الذي ضرب عمق العاصمة الفرنسية باريس منذ عدة أسابيع فقط.
وها هو رئيس الوزراء ديفيد كاميرون يضع أمام البرلمان البريطاني مشروع التعاون مع موسكو في التحالف الذي أعلن عنه الرئيس بوتين ضدّ الإرهاب، وهاهو العالم يسمع ويرى تفسيراً علمياً لإشارات الرئيس بوتين في قمة العشرين حين قال: هناك دول تدعم الإرهاب وبعضها موجود معنا في هذا الاجتماع.
أتى العدوان التركي الأحمق بهذه السرعة، وإعدام الطيار الروسي وهو قافز في مظلته بغية النجاة، وهو العمل الذي يعتبر جريمة حرب، أتى كل هذا ليشرح إشارات الرئيس الروسي بأن الدولة المضيفة لقمة العشرين، أي تركيا، هي الدولة الأولى الحاضنة والمؤيدة للإرهاب.
وفي كلّ هذا يبرز دور القيادة الروسية وسياستها الاستراتيجية وصدقها في التعامل مع الأصدقاء والأعداء، وهنا أيضاً تقدّم روسيا أنموذجاً مختلفاً جداً عن قوة عظمى مازالت تفرض هيمنتها الاقتصادية والعسكرية على العالم أجمع. روسيا تقدم هذا الأنموذج من روح الشرق التي تتناقض كلياً مع منهجية الغرب وإيمانه بأن القوة الغاشمة هي الوحيدة القادرة على حسم الأمور.
كان اللافت في اجتماع بوتين- هولاند هو تعبير بوتين عن وجهة نظر روسيا في محاربة الإرهاب وما أضافه بعد ذلك: إن هذه هي رؤيتنا ولكننا مستعدون للاستماع لرؤية الآخرين ومناقشتها وندعو الآخرين للتحدث إلينا برؤيتهم. وعلى بساطة هذه العبارات هي بالفعل في غاية الأهمية لأنها عنوان أساسي لاحترام «الآخر»، أياً يكن هذا الآخر، واحترام رأيه ومقترحه ومشاركته فكراً وأسلوباً وعملاً في البحث عن الحلول إضافة إلى تواضع القوّة العالمية الصاعدة وطمأنتها لشركائها أنها تسمع وترى وتناقش وتتأقلم مع المعطيات الجديدة.
هذه القيم الأخلاقية في السياسة من تواضع واحترام وصدق وثبات على الموقف هي قيم جوهرية لنجاح هذه السياسة وبلوغها أهدافها المرتجاة، اليوم أو غداً أو بعد غد.
يقابل هذا الألق في سماء روسيا وشوارعها التي اكتست حلّة بيضاء في أثناء وجودنا هناك، اسوداد صفحة مجرم الحرب، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في العالم برمته بما فيه العالم الغربي، وانكشاف حقيقة دعم تركيا للعدوان على سورية منذ اليوم الأول، والشراكة التركية الداعشية في النفط والمال وسفك دماء مئات الألوف من السوريين وتدمير حياة الملايين منهم من أجل تكريس الثروة الحرام لابن أردوغان.
إنّ حماقة أردوغان الإجرامية كشفت خلال أسبوع واحد للعالم أجمع ماهية هذا الإرهاب الذي يضرب سورية والعراق، وفضحت الدول التي تدعمه؛ كما كشفت أيضاً الفرق الجوهري بين النفاق الغربي في حديثه عن مكافحة الإرهاب وبين صدق التعامل الروسي في الوقفة الجريئة الحازمة ضدّ الإرهاب.
لقد مضى على ظهور داعش في العراق وسورية سنتان ونيّف، ومضى على تشكيل التحالف الأميركي ضدّ الإرهاب ثمانية عشر شهراً ازدادت رقعة الإرهاب خلالها في العراق وسورية، وازداد الإرهابيون تسليحاً ودموية وفظاعة وانتشاراً مع تجاهل مطلق لمعاناة الشعبين السوري والعراقي من الغرب؛ حيث يتحدث أوباما عن العنف الفلسطيني وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وعن حق تركيا في الدفاع عن أراضيها وهي ترتكب جريمة بحق الإنسانية على مرأى العالم أجمع إن هذا كلّه، يعني أن تصريحات الساسة الغربيين أصبحت جوفاء لا قيمة لها وأنهم لن يجدوا من يحترم تصريحاتهم بعد اليوم.
لقد اكتشفت الشعوب في الشرق والغرب والشمال والجنوب النفاق الغربي وأحاديثه الجوفاء عن حقوق الإنسان واستغلاله لثروات الشعوب ومقدراتها، وبدأت هذه الشعوب ذاتها تتجه شرقاً لترى قوة عسكرية وسياسية ملتزمة فعلاً بالأخلاق وحقوق الشعوب في الحياة الحرة الكريمة وحقها في تقرير مصيرها.
لقد تغير العالم فعلاً وانقشع ضباب التهويل الإعلامي والأكاذيب الدعائية عن أعين الناس في الشرق والغرب، وكسب الحقّ جولة مهمة في حربه على الباطل: إن الباطل كان زهوقاً.
ش