التاريخ لا يعيد نفسه
في حمأة ما يجري في منطقتنا والعالم، معظم الناس تحاول أن تستخلص هوية ما للصراعات القائمة، أو تتنبأ بشكل ما من أشكال النهايات وتشكّل جديد للمنطقة والعالم. ويعتمد معظم هذه المحاولات بشكل فطري وطبيعي على التجارب السابقة إذ إن المقارنات تجري بشكل عفوي مع ما شهده العالم في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، وتتعالى الهمسات أننا قد نشهد حرباً عالمية ثالثة غير مدركين ربما أن العالم قد أصبح اليوم في حالة حرب عالمية ثالثة لا تشبه الحرب العالمية الأولى ولا الثانية. إن شكل العالم اليوم مختلف جداً عما كان عليه في الحربين الماضيتين، ولذلك فمن البديهي أن يكون شكل الحرب اليوم مختلفاً جداً عن الحربين السابقتين اللتين شهدهما العالم في القرن الماضي. فهناك اليوم الوجه الاقتصادي للحرب، والوجه التقني للحرب، والإجراءات القسرية، وقرارات الأمم المتحدة وغيرها من الأطر والأساليب التي لا تقلّ تأثيراً وضرراً على حياة الناس من الحروب الميدانية. ولكن حتى بالنسبة للحروب الدائرة على أراضي المعارك، فقد شهدت السنوات الأخيرة حروباً عدة بالوكالة بحيث عليك أن تتفحص وتمحص الأمور لكي تعلم حقيقة من يحارب من، وما الغاية الفعلية وراء هذه المعارك أو الحروب. أي إن العالم قد طوّر أساليبه وإخفاء نياته وغموض مقاصد تحركاته ليس في العلم والتكنولوجيا فقط وإنما في الحروب أيضاً.
ولهذا التغيير أسبابه وأهدافه، فبعد أن اكتشف العالم المتقدم علمياً وتكنولوجياً والولايات المتحدة على رأسه، أن إرسال الجيوش يكلفها غالياً، كما كانت تجربتها في أفغانستان والعراق، اخترعت طريقة لإشعال فتيل حروب تحقق أهدافها السياسية، وتشغّل معامل السلاح داخل حدودها، ولا تكلفها حياة جندي أميركي واحد، وتسير وفق المخطط المرسوم لها من دوائر البحث الأميركية والصهيونية. وفي هذا تطوّر وذكاء شديدان أن تستخدم أراضي الغير وشعوب الغير حطباً لحروبك وأن تحصد النتائح كلها لمصلحتك ومصلحة شركاتك أنت الهانئة بأرباح الحروب من وراء المحيطات. وبهذا فما عليك إلا أن تؤجج صراعات ونزاعات مختلفة بين من لا يعملون العقل ولا يقرؤون التاريخ ولايستشرفون المستقبل فترديهم حطباً لحروبك، وتردي بترولهم وقوداً لشركات تصنيع الأسلحة، وتحفظهم في أقاليمهم غير قادرين على إنتاج فكرة أو التخطيط لمستقبل. بهذا المعنى فإنّ شكلاً من أشكال الحرب العالمية الثالثة قد بدأ بالفعل بمعارك هنا وأخرى هناك يجمع بينها الصراع بين القوى العظمى على شكل ومستقبل العالم الجديد الذي لن يكون للمتصارعين في الميدان مكان على الطاولة فيه، بل سيجلس الفريقان، أو الفرقاء الأساسيون، في العالم على الطاولة لتقاسم مناطق النفوذ، بعد أن تكون جيوش وشعوب وموارد المتصارعين بالوكالة قد استنفدت على أرض المعارك المفتعلة خصيصاً لاستنفادهم.
من هنا تم اختراع القاعدة وداعش والنصرة والفرقة بين يمن الشمال ويمن الجنوب، ومن ثم بين الحوثيين وأنصار اللـه من جهة وما سمي الداعمين للشرعية من جهة أخرى، ومن هنا تم اختراع مجموعات تلبس لبوس الجاهلية وتدعي الحرص على الإسلام والشريعة، ومن هنا تم شراء أشخاص أو أطراف أو دول تصدّق أنها الصديق للأخ الكبير ما وراء البحار وتؤمن بسذاجة الجاهل أنه حريص عليها وعلى مستقبلها، غير مدركة أنها أداة رخيصة لاستهداف محيطها ولغتها وحتى مستقبل أطفالها.
ما تحتاج إليه هذه الحرب العالمية الثالثة أكثر من أي شيء، هو الوعي والمعرفة لأن التخطيط تمّ لها بالعلم والمعرفة والتقنيات الحديثة وتم تصديرها لمناطق توقف زمن العلم والمعرفة لديها منذ عقود وأوقفت دأبها البحثي والمعرفي والتوعوي إيماناً منها بأن المال يمكن أن يشتري كل شيء من دون جهد أو سهر أو بحث أو تعب. وقد تكتشف لاحقاً، أو لا يتيح لها الوقت أن تكتشف، أن من يؤمن بشراء العلم والفكر والتقدم سوف يجد نفسه في النهاية سلعة في سوق النخاسة. فقط تلك الشعوب والدول المنتجة للعلم والمعرفة سوف ترسم وجه المستقبل. هذه هي الحرب العالمية الثالثة التي يخوضها عالم اليوم، وبالأخص منطقة الشرق الأوسط، والعالم العربي بالذات. ومن هنا فإن التاريخ لا يعيد نفسه ولكنه يعود بصيغ وعوامل ومعطيات جديدة علينا أن نحللّها وندقّقها ونتفاعل معها كي نكون جزءاً من صناعة التاريخ المستقبلي.