يكثر المسؤولون الغربيون من استخدام مثل شائع في الإنكليزية ألا وهو “الأفعال تتحدث بصوت أعلى من الأقوال” أو كما قالت ليز توس المرشحة لقيادة حزب العمال البريطاني مؤخراً عن الرئيس الفرنسي ماكرون: “سأحكم على أفعاله وليس على أقواله”. وأعتقد أنه من الحكمة أن نطبق هذا المثل على منشئيه ورعاته؛ أي على المسؤولين الغربيين وأن نحكم على أفعالهم وليس على أقوالهم أو على ما يروجون له في إعلام أصبح له مساره الخاص به بعيداً عن مجريات الواقع وحقيقة الأمور.
وإذا أخذنا على سبيل المثال لا الحصر الحرب الدائرة اليوم في أوكرانيا وهي حرب انخرط بها الغرب حتى الثمالة من خلال تحويل غير مسبوق للأسلحة إلى أوكرانيا ورفدها بالمرتزقة من كل أصقاع الأرض نجد أولاً أن مقولة “الإعلام الحرّ” لا أساس لها من الصحة وأن أي إعلامي يتجرأ أو يحاول أن يشير إلى جزء من حقيقة ما يجري على الأرض في أوكرانيا ينال أقسى العقوبات إذ من غير المسموح أبداً أن يتمّ حتى التفكير بمسببات هذه الحرب والمسؤولية المحتملة لجميع الأطراف أو بعضها في نشوبها. فالسردية الوحيدة المقبولة، بل والمسموح بها أن تظهر في الإعلام الغربي، هي أن بوتين هو المسؤول وأنه يجب إنزال أشد العقوبات بالرئيس بوتين وبروسيا الاتحادية وأن هذه قضية وطنية وأخلاقية غربية لا يجوز التشكيك فيها أو طرح أي سؤال بشأنها.
لقد لاحظنا من قبل أن الحرب الغربية الإرهابية على سورية أُعطيت صورة في الإعلام الغربي لا علاقة لها بما يجري على أرض الواقع وتمت تسميتها وتوصيفها من قبل جميع الدارسين الغربيين بأنها “حرب أهلية” بينما الواقع يشهد أن تضامن الشعب السوري وتراحمه مع بعضه البعض وتعاضد جميع أبنائه عبر الطوائف والأقاليم كان السبب الأساس في صمود سورية ودحرها لأعتى حرب إرهابية شنها الغرب على أي بلد في الماضي أو الحاضر.
ولكن الحرب الدائرة في أوكرانيا والعقوبات غير المسبوقة التي فرضها الغرب على روسيا بهدف إضعافها وتلقين رئيسها بوتين درساً لا يُنسى قد ارتدت على فارضي هذه العقوبات تضخماً وغلاء وإفقاراً، بينما قفز الروبل ليصبح من أهم العملات العالمية وتطورت العلاقات بين روسيا والصين وإيران بما يعد بمستقبل سياسي واقتصادي مختلف للعالم برمته.
والسؤال الجوهري الذي يجب طرحه هنا هو: أوَليس الغرب هو الذي يشنّ الحروب ويغيّر الأنظمة بحجة نشر الديمقراطية والتي من المفروض أن تضمن حرية الشعوب بأن تعبّر عن ذاتها ليس في صناديق الاقتراع فقط وإنما في أي مفصل قد يلحق الضرر بحريتها وكرامتها أو لقمة عيشها واستقرارها المادي والنفسي؟ أين هي الحرية التي عبرت عنها مراكز الأبحاث أو الجامعات أو الكتاب الغربيون في انتقاد سياسات تلحق بالغ الضرر بشعوبهم ذاتهم وأين هي الأهداف التي تحدث عنها قادة هذه الدول لتبرير ما لحق بشعوبهم من تضخم وغلاء أسعار وفقر وفقدان للوظائف وتراجع عام في مستوى الحياة؟ وما هو المأمول بالنسبة لهذه الشعوب وما هو الانتصار الذي يتمّ التعويل عليه أو انتظاره؟
الأدهى من ذلك أن قيادات هذه الدول لا تتوقف عن الإعلان بين الفينة والفينة عن مليارات الدولارات المخصصة “لمساعدة أوكرانيا” أي لإرسال السلاح الغربي إلى أوكرانيا لقتل وتهجير شعبها ومراكمة الديون الهائلة على مستقبل أبنائها بينما تبقى مصانع السلاح الأمريكية هي المستفيد الأوحد من استمرار الحرب، فقد أعلنت الولايات المتحدة منذ أيام أنها خصصت 3 مليار دولار لأوكرانيا وكانت قد خصصت مليار دولار قبل فترة وجيزة، وكذلك تفعل بريطانيا وفرنسا وألمانيا على حساب قوت شعوبهم وقدرة هذه الشعوب على العيش الكريم المحترم.
إذا كانت هذه البلدان قد درجت على اتهام الدول الأخرى التي لا تتبع مسارها “بالديكتاتورية” وعدم الإنصات لأصوات شعوبهم فماذا يمكن أن يقولوا اليوم وهم يلحقون بالغ الأذى بشعوبهم في حرب عبثية لا طائل منها ولن يكتب لهم الانتصار فيها ولا للشعب الأوكراني، لأن الانتصار في الحروب هو دوماً للموت والتهجير والنزوح والفقر. لقد نشر سايمون جينكز مقالاً هاماً في جريدة الغارديان البريطانية في 29/7/2022 يقول فيه: “إن التلميح فقط بموضوع الشك أو العقوبات على روسيا كفيلة بأن يتم تصنيفك بأنك مؤيد لبوتين وضد أوكرانيا” وأضاف: “العقوبات هي صرخة الحرب وصريخ الغرب اليوم”.
وبما أن كثيراً من الكتاب الغربيين يدّعون في مقالاتهم أن الرئيس بوتين يفعل ما يريد لأنه ليس قلقاً على انتخاباته المقبلة يحق لنا أن نسأل: أولا يفعل القادة الغربيون ما يريدون في هذه الحرب ويسرفون في ضمان استمرارها ورفدها بالمال والسلاح والمرتزقة؟ والمشين في الأمر أن هذه الدول الغربية التي تدّعي الحرص على الإنسان وحقوقه وحريته لا تخجل من التصريح أن “العقوبات طالما أنها توجع فهي فعّالة، وأنها نوع مقبول من العدوان”.
والسؤال هو: من توجع هذه العقوبات؟ إنها توجع الشعوب التي تعمل وتطمح وتجاهد من أجل حياة حرة وكريمة. وقد درجنا نحن في دولنا ومنطقتنا على مشاهدة الغرب يعبث بحياة البشر في آسيا وأفريقيا بطريقة تبرهن على عدم احترام حياة وحقوق الإنسان بل وإلحاق أكبر الضرر والأذى بها. ولكن الجديد في الموضوع اليوم هو أن حكام الدول الغربية لا يأبهون أيضاً بمعاناة شعوبهم وليسوا مستعدين أن يعيدوا النظر بحماقات ارتكبوها بحق شعوبهم وشعوب استهدفوها وأخرى تذرعوا بمحاولة حمايتها.
يشير المؤرخ الاقتصادي نيكولاس مودلر أن 30 حرب عقوبات شنها الغرب خلال الخمسين سنة الماضية أتت بنتائج عكسية: من كوبا إلى كوريا وميانمار وإيران وفنزويلا وروسيا، وأن الأنظمة التي استهدفتها العقوبات الغربية قد خرجت دائماً أقوى من هذه العقوبات.
ماهي القصة إذاً في الغرب وهل يمكن أن يكون الإرهاب الإعلامي بعدم السماح لأحد بالتساؤل عن جدوى الموقف الغربي من هذه الحرب أن يكون سببه الإدراك العميق بأن لا جدل ولا سردية ولا منطق يمكن أن يبرّر ما يتم ارتكابه بحق هذه الشعوب ولذلك فالأفضل نشر الرهاب والخوف حتى من التساؤل؟ أم أن الأزمة في الغرب أعمق بكثير ألا وهي أزمة حكام ليسوا قادة ولا يحسنون تقدير ما يجري ولا ما يجب أن يكون ولا يعلمون أنهم لا يحسنون ذلك فيستمروا في طغيانهم يعمهون. هل الحرب على أوكرانيا هي نتاج أزمة قيادة عميقة في الغرب تؤشر إلى مسار سيزداد صعوبة وتعقيداً إلى أن تتمكن الشعوب من خلق صيغ وآليات جديرة بتغيير هذا الواقع لصالحها ولصالح الإنسانية برمتها؟