بالإضافة إلى أخبار الزلزال والهزات الارتدادية والموت والدمار فقد شهد الأسبوع الماضي ارتدادات سياسيّة واجتماعيّة ودوليّة جديرة بالتمحيص والتفكير المعمّق. وقبل الابتعاد عن الزلازل المدمّرة لا بدّ من التنويه أن الدول الغربية قد تصرّفت بشكل مخزٍ يثبت للمرة الألف ألّا علاقة لأعمالها بادّعاءاتها الإنسانية وحرصها على حياة وحقوق البشر، وبرهنت أن سياساتها مبنيّة على مصالحها الضيّقة جداً حتى وإن تنافت مع مصداقيتها وسمعتها وآفاق أعمالها. وما تلا من تصرّفات الغرب حيال الزلزال الذي ضرب سورية بشكل خاص يؤشّر إلى أن العالم اليوم يعيش مرحلة مخاض وأن مستقبل البشرية وأمنها ورفاهها متوقف على التوجّهات التي سوف تأخذ السّبق وتحدّد المسار.
في قراءة الأحداث قبل قراءة السّرديّات فإنّ زيارة الرئيس بايدن إلى أوكرانيا في 20 شباط مستبقاً خطاب الرئيس بوتين في 21/2/ ليُشغل الإعلام بمفاجأته وتحرّكاته وسرديّته التي تناقض حكماً سرديّة الرئيس بوتين، ولينتزع من الإعلام فرصة التركيز على ما يقوله الرئيس بوتين، تُري هذه الزيارة ضعفاً أكثر من القوة وخاصة أنه لم يأتِ بجديد على الإطلاق، وخاصة أيضاً أنّ أبناء شعبه المتضرّرين من انزلاق قطار في أوهايو وموجة الثلوج التي تضرب عدّة ولايات وغيرها كانوا بأمسّ الحاجة إلى زيارته واهتمامه واتّخاذ قرار بشأن عشرات الحوادث المماثلة التي يدفع ثمنها الأمريكيون دون أن يجدوا اهتماماً من أحد لمنع وقوعها ومساعدة ضحاياها. وهذا غيض من فيض طبعاً يسجّل على الإدارات الأمريكية والأوروبية بتجاهل معاناة شعوبها اللّاذعة والعيش بوهم افتراضي مفاده أنّ مواطنيها ممتنّون “للحرية” و”الديمقراطية” التي يتمتعون بها بينما يعانون من شظف العيش وانكشاف حقيقة أن أصواتهم وانتخاباتهم لا تغيّر من واقع الشركات الحاكمة بقوة السلاح وقوة المال التي تدرّه مؤسّسات الصناعات العسكرية المسؤولة عن إشعال الحروب في كلّ أنحاء العالم.
تزامن تحرك بايدن هذا بأخبار تمّ التركيز عليها بشكل جنوني في الغرب متعلّقة بزيارة وزير خارجية الصين إلى روسيا ولقائه مع الرئيس بوتين والوزير لافروف والتكهّنات أن الرئيس الصيني سوف يزور موسكو في الفترة القادمة، وفحوى هذه الأخبار هو القلق الذي عبّرت عنه الخارجية الأمريكية على لسان نيد برايس المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية الذي قال: “نحن قلقون لأن هذين البلدين يتشاركان في رؤية. إنها رؤية لحقبة يمكن أن تتنمّر فيها البلدان الكبيرة على البلدان الصغيرة ويمكن إعادة رسم الحدود بالقوة”. وانطلقت التكهّنات الغربية على لسان مسؤولين غربيين وأمين عام حلف الناتو وآخرون كثر أن الصين قد تكون بمرحلة التفكير بمدّ روسيا بمساعدات قتالية، واختلفت السّرديّة بين “ربما” أو نعتقد” إلى ما هنالك من اللغة الضبابية المنطلقة من التشكيك والعاملة على خلق واقع افتراضي في أذهان القرّاء والمشاهدين بغضّ النظر عن الوقائع الملموسة على الأرض. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كيف يمكن التّرويج لكلّ هذا الخوف من مساندة الصين لروسيا في الحرب الدائرة في أوكرانيا بينما تعلن الدول الغربية علناً عن إرسال مليارات الدولارات من الأسلحة إلى أوكرانيا بحيث صرّح مسؤولون عسكريون غربيون أنّ مخازن السلاح قد أفرغت في بلدانهم؟! ولماذا يحقّ لكلّ هذه البلدان أن تدعم أوكرانيا في حربها مع روسيا ولا يحقّ لأي بلد آخر أن يفكّر حتى في دعم روسيا التي هي في الواقع تواجه حرب الناتو بكل عدّته وعتيده على روسيا؟ لقد أصبح الآن واضحاً للجميع أّن أوكرانيا هي مسرح الحرب فقط أما جوهر هذه الحرب فهو حرب الغرب للحفاظ على هيمنته ولمنع ولادة عالم متعدّد الأقطاب ومحاولة هزيمة الدولة (أي روسيا) التي رفضت هذه الهيمنة ورفضت العدوان على شعبها وحدودها والمراوغة الغربية التي عانت منها لسنوات بخصوص أوكرانيا.
وفي وجه حملة التشكيك والتكهّن بنوايا الصين والتي تهدف لإبعاد الأنظار عن كلّ الوقود الذي يزجّه الغرب لإبقاء هذه الحرب مستعرة ولتشغيل صناعاتهم العسكرية على حساب دماء الشعوب والإبقاء على فرض الهيمنة وسلب ثروات البلدان الأخرى أكّد المسؤولون الصينيون أنهم وروسيا: “يدعمون تعدّد الأقطاب والديمقراطية في العلاقات الدولية” وهذا بالضبط ما يخشاه الغرب ويزيد من أتون هذه الحرب ليمنع حدوثه، لأنّ انتصار روسيا سيعني دون شك ولادة عالم متعدّد الأقطاب، كما أن المبادرة الصينية للأمن الدولي والأمن الجماعي تعني الالتزام بأمن مستدام شامل يشمل الجميع وبالتعاون مع الجميع ويعني احترام ووحدة أراضي جميع البلدان والالتزام بالمبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة والاهتمام الجدّي بالمشاغل الأمنية المشروعة لجميع البلدان والالتزام بحلّ الخلافات من خلال الحوار والتشاور.
هذا يعني في جوهره الحديث عن أسرة إنسانية متساوية في الحقوق والواجبات فعلاً وفي الكرامة والإنسانية والوطنية، وهذا يعني أنه لا يمكن لدولة واحدة أن تفرض عقوبات على أي شعب في العالم وترهب الدول الأخرى كي تلتزم بعقوباتها وترتكب جريمة “عقاب جماعي” لشعوب بأكملها، وهذا يعني وضع نهاية للسطو المسلّح الذي يمارسه الغرب على كثير من البلدان لمنافعه واستمرار هيمنته، وهذا يعني تقويض أسس الأنظمة الغربية التي تديرها مؤسّسات صناعة السلاح العاملة دوماً على إشعال الفتن والحروب من أجل تصريف مخازنها من الأسلحة وإنتاج أسلحة جديدة.
ولكلّ هذه الأسباب فإن الغرب يزجّ بكلّ قواه العسكرية والمالية لاستنزاف روسيا في أوكرانيا ليس فقط طمعاً بثرواتها الهائلة وطمعاً بتقسيمها وتفتيتها والسيطرة عليها وإنما أيضاً كي يضمن هيمنته على العالم ربّما على امتداد هذا القرن بحيث لا يجرؤ أحد بعد ذلك أن يخالف إرادته. وفي هذه الحرب يسخّرون إعلاماً هائلاً لنشر سرديّاتهم وإقناع الآخرين بوجهات نظرهم وإحادة الانتباه عن كلّ عمل أو جملة لا تصبّ في مصلحتهم، وبناء تحالفات جديدة وزرع الخوف من الخوف وترقية الشكوك والتكهّنات لتصبح يقيناً، وتجاهل الحقائق والوقائع على الأرض في معركة مفصليّة حاسمة قد تمتدّ أشهراً أو سنوات. ولكنّ المؤكّد أن وجهة الحياة الإنسانية ومصيرها ومستقبلها مرهون بنتائج هذه المعركة.