تخوض اليوم الصين معركتين كبريين: واحدة في مكافحة فيروس كورونا، والأخرى في مواجهة التشويه الإعلامي المتعمّد والذي يحاول النيل من حضارة الصين وتاريخها وموقفها من المسلمين ومستقبل قوتها واقتصادها. وفي كلتا المعركتين اتبعت الصين نهجاً مبدئياً نبيلاً هدفه مواجهة الحقائق والاعتراف بها من أجل حماية الشعب الصيني ومنع انتشار هذا الفايروس في الدول الأخرى. ولهذا السبب كانت التصريحات الصادرة عن الصين ومنذ البداية شفافة وهادئة وصادقة حتى وإن تم استخدام هذه الشفافية من قبل المغرضين والذين يصطادون في الماء العكر لإلحاق الأذى بالصين واقتصادها ومستقبل أدائها العالمي؛ إذ قد برهنت كلّ خطوة اتخذتها الصين في مكافحة فيروس كورونا أن الهدف الأول والأخير من هذه الإجراءات هو إنقاذ كلّ روح من الممكن إنقاذها وعدم التضحية ولو بنفس واحدة إذا كان العمل الجاد والمتواصل والدقيق قادراً على إنقاذها.
وهكذا فقد حشدت الصين ومنذ اليوم الأول كل مقدراتها من أطباء وطواقم طبية وغذائية وهندسية ووضعت خططاً وإجراءات تستحق التقدير والاحترام والشكر لأنها من خلال هذه الإجراءات حاصرت انتشار هذا الفايروس ليس في الصين فقط وإنما في العالم ايضاً؛ فقد عزلت الصين ومنذ البداية مدينة “ووهان” والتي تأوي أربعة عشر مليون إنسان وأخذت توصل الطعام والخدمات لكل هؤلاء مجاناً مع المراقبة الوقائية الشديدة كما قدّمت الخدمات ذاتها لكل المناطق والناس الذين قررت حجرهم، وفي الوقت ذاته حشدت آلاف الخبرات من المهندسين والتقنيين واختصاصات البناء المختلفة؛ فأنشأت مشفى من 22000 سرير خلال أسبوعين كي لا يقف المرضى أمام حائط مسدود في حال لم تتوفر لهم أماكن الاستشفاء والمراكز الطبية المناسبة، وتبرّع الصينيون من كلّ أنحاء البلاد للقيام بهذا العمل رغم المخاطرة المحتملة بصحتهم وربما بحياتهم. والسؤال الفعلي هو: هل يمكن لنا أن نتخيل أي دولة في العالم قادرة على حشد هذه الطاقات والإمكانات وبهذا الزمن القياسي لمواجهة وباء خطر يهدد صحة جميع الناس وحياتهم وربما بقاءهم؟ وهل يمكن لنا أن نتخيل ولو للحظة اكتشاف هذا الوباء في بلد آخر لا يملك النظام المركزي القادر على التفاعل مع كلّ الناس وفي جميع أنحاء البلاد ومع مليار وأربعمائة مليون شخص؟ وما الذي كان سوف يحدث للبلد ذاته وللبلدان التي كانت على احتكاك معه في فترة حضانة المرض وقبل اكتشافه؟ ومع ذلك فإن وسائل الإعلام المغرضة والأدوات المأجورة بدأت تتحدث عن موقف الصين من المسلمين وأن هذا الوباء عقوبة إلهية؛ وفي هذا المنطق كفر بالقيم الأخلاقية السامية للإسلام كما نص عليها القرآن المجيد، كما أن البعض الآخر بدأ يتحدث عن الأثر الحتمي لهذا الابتلاء على الاقتصاد الصيني وصعوبة أن تعود الصين إلى ما كانت عليه من نسبة النموّ والقدرة على المنافسة من أجل المرتبة الأولى في الاقتصاد العالمي. ولكن الأجدر في الملاحظة والتقدير هي هذه القدرة وهذه الدينامية التي برهن عنها النظام الاجتماعي والسياسي في الصين في أخطر أزمة تتعرض لها البلاد، ومن المفيد هنا استحضار المقولات الغربية والإعلام الغربي منذ عدة سنوات حين كان الشغل الشاغل للإعلام الغربي هو نشر الديمقراطية الغربية والجدل على أن حكم الحزب الواحد لا يمكن أن يكون ديموقراطياً، وأنّ تعدّد الأحزاب والصيغة الغربية للحكم هي الصيغة الوحيدة التي يمكن لها أن تنتج مساراً ديمقراطياً حقيقياً، وكان هذا المنطق من وجهة نظرهم مبرراً لاختلاقهم حروب “الربيع العربي” وتدمير نظم الحكم والحياة في أكثر من بلد عربي ليأتوا بنظم هزيلة فاسدة تتسم بالتعددية والانتخابات وبحكومات طيعة للأجنبي، كما كان المبرر لمحاصرة إيران رغم انها تتمتع بنظام برلماني وانتخابات دستورية وتوجيه النقد المستمر للصين ونظامها، ولكنّ الصين سارت بقناعاتها وأثبتت للعالم أنها قادرة على اجتراح المعجزات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية وأنها في الربع الأخير من الطريق لتتربع على المركز “رقم واحد” في الاقتصاد العالمي. أوليس هذا جديراً بأن يدفع الناس في كلّ أنحاء المعمورة لإعادة النظر جدياً بالمقولات الغربية ونظرياتهم في الحكم الرشيد والحوكمة وما إلى هنالك من مصطلحات اخترعوها لتناسب مصالحهم وليفرضوها على أمم وشعوب وبغض النظر عن مواءمة هذه النظريات مع تاريخ وثقافة وعادات ومعتقدات هذه الشعوب؟ لقد برهنت الصين في خوضها معركة مواجهة هذا الفايروس أن اهتمامها بحياة البشر سواء أكانوا صينيين أم غير صينيين يفوق كل الاعتبارات العرقية والطائفية والسياسية والاقتصادية؛ فوضعت ومنذ اللحظة الأولى الأمور في نصابها الصحيح وصرّحت بما يجب التصريح به لحماية الصين والأجانب وكلّ من له علاقة مباشرة واحتكاك مع الصين، ونبّهت وعملت وطوّرت من برامج المواجهة بشفافية وإمكانات تثير الإعجاب بالفعل ، وانطلقت في كلّ ما قامت به من إيمانها أن الأسرة الإنسانية أسرة واحدة وأن ما يجري في الصين سيؤثر حكماً على الناس في كل مكان والعكس صحيح؛ وهذا هو المفهوم الصحيح والسليم للعولمة ألا وهو أن نرى العالم أسرة إنسانية واحدة في مسيرها ومصيرها لا أن نفرض قيم البعض على البعض الآخر بهدف الهيمنة والاستغلال ونهب الثروات وإخضاع جزء من البشر لإرادة الجزء الآخر بسبب الإيمان بنظريات التفوق العرقي والعنصرية والاستعمار. إن المعركة الصحية والإعلامية التي خاضتها وتخوضها الصين برهنت دون أدنى شك أن النظام السياسي الذي اجترحته الصين هو نظام إنساني بامتياز ونظام شديد الفعالية على المستوى الداخلي والدولي ونظام يؤمن بالتعددية الثقافية والسياسية والحضارية ضمن الوحدة الإنسانية؛ إذ أن العولمة لا تعني أبداً أن تكون البلدان والبشر نسخة مطابقة الواحدة للأخرى بل تعني اننا نؤمن أننا نعيش في عالم متكامل ينتشر فيه الخير والشرّ بسرعة فائقة ليشمل جميع أجزائه ولذلك لابدّ وأن يكون كل فرد وكل بلد في هذا النظام سبّاقاً للعمل من أجل خير البشرية برمتها. وبهذا المعنى فإن المعركة في مكافحة فايروس كورونا تشبه إلى حدّ ما المعركة التي سبقتها في مكافحة الإرهاب؛ ففي الوقت الذي عمل الغرب بالتعاون مع دكتاتور تركيا لاستقدام كل شذاذ الآفاق من الإرهابيين المتأسلمين إلى سورية ليعيثوا بها قتلاً ودماراً من أجل أن يقيم دولة الخلافة العثمانية على أنقاض القومية العربية وقفت روسيا والصين وإيران مع شعب سورية في معركتهم ضد الإرهاب نتيجة إيمانهم الأكيد ان الإرهاب آفة عالمية خلقتها دوائر استعمارية معادية للبشرية وأنه إن ضرب في سورية اليوم فسوف يضرب غداً في أي بلد في العالم بالضبط كفيروس كورونا مالم يتم التعاون والتكاتف للقضاء عليه وإراحة البشرية من سمومه وآثاره. واليوم يواجه العالم برمته خطر فايروس كورونا ولا شك أن الطريقة المثلى لمكافحة هذا الوباء هي بالتعاضد والتعاون والاستفادة من خبرات من سبق في هذا المجال وتسخيرها في أي مكان لتحقيق الهدف ذاته ألا وهو تخليص البشرية من خطر هذين الوباءين الإرهاب التركي وكورونا.
صحيح أن المعركة التي خاضتها الصين معركة صحية وإعلامية أساساً ولكنّ نتائجها السياسية يجب ألّا يستهان بها أبدأ لأن ما قامت به الصين من عمل جبّار يدل على أنها تتمتع بنظام فعّال لإدارة الأزمات والذي يجب أن يكون حافزاً للآخرين كي يفكروا بعوامل القوة والحصانة التي يمتلكها أي بلد وماهي المقومات التي تمكنه من الصمود في وجه أزمة خطيرة كأزمة كورونا أو الإرهاب المدعوم سياسياً وتمويلياً وتسليحاً من قوى الظلام والطغاة في العالم. ما يحاول الغرب فعله هو التهويل من النتائج الاقتصادية التي سوف تعاني منها الصين نتيجة توقف الحركة بها خلال هذه الفترة ولكن الشعب الذي تمكن من بناء دولة ونظم سياسية وإدارية واقتصادية عملاقة خلال خمسين عاماً قادر حكماً على الاستئناف والتعويض عن فترة الطوارئ هذه. ونحن هنا لم نرغب بالخوض بأسباب هذا الوباء وما إذا كان طبيعياً أم مخبرياً رغم أن العلماء في الصين قد تأكدوا من أن الطعام ليس السبب في ظهور هذا الوباء، لأنّ هذه مسالة أخلاقية وإنسانية كبرى ولابدّ للخوض فيها من التأكد بعد حين من المسببات والاهداف والأطراف التي عملت وهذا يحتاج إلى وقت وعمل للتحقق منه، ولكنّ الثابت في الموضوع هو أننا نحتاج إلى إيمان أكيد بتعددية حضارية وثقافية وسياسية تلغي الاستئثار بالصيغة الوحيدة في الحكم وتعتبر التعدد الثقافي والحضاري عناصر مغنية لوحدة الإنسانية وتطورها وألقها وازدهارها. وللذين يستخدمون اسم الإسلام لتشويه مقاصده النبيلة نذكرهم بقول الله عزّ وجل في كتابه الكريم: ” ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم”، وأيضاً: “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة” وإنما “وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم”. إن قيم الصدق والعدالة واحترام الإنسان التي عبّرت عنها الصين في هذه الأزمة تتلاقى في الروح والهدف مع قيم كل الديانات السماوية التي دعت إلى المحبة والتعاون والاحترام، وهذه هي الأسس السليمة لنظام دولي قائم على العدالة والمساواة وسيادة القانون. تجربة الصين في مواجهة ومعالجة كورونا تستحق الدراسة ليس فقط صحياً وإعلامياً وإنما سياسياً واجتماعياً لاستخلاص الدروس السليمة والاستفادة منها في بناء الدول وفي تصويب بنية الأسرة الدولية ومسارها.