العالم اليوم
محطات كثيرة متداخلة وأحياناً متناقضة مع ذاتها ومع الواقع تستدعي وقفة متأنية لملامسة مسار الأمور بعيداً عن التشويش والتهويل. والمحطات الثلاث الأساسية هذا الأسبوع هي الاجتماع الخليجي التركي وقرار اليونسكو الذي ينفي أي علاقة أو رابط تاريخي أو ديني أو ثقافي لليهودية بالقدس، والمحطة الثالثة هي الموصل وشمال شرق سورية واجتماع لوزان بهذا الصدد.
في المحطة الأولى يعتبر الاجتماع الخليجي التركي جنوحاً نحو الطائفية في المنطقة ومحاولة واضحة لاصطفاف طائفي له برنامج إخوان مسلمين مغلف بعبارات سياسية جوفاء تناقض الواقع الذي تدعمه وتموّله وترعاه هذه الدول ذاتها. إذ يذكر البيان الخليجي-التركي دعم التحالف والعمليات الأخرى ضدّ المنظمات الإرهابية، على حين يمكث ممثلو هذه الدول عينها مع القيادات الإرهابية في سورية ويمدونهم بالسلاح والمال من أجل استمرار المعارك التي افتعلوها على الأرض السورية منذ أعوام. وفي الوقت الذي يمثل به هذا الاجتماع خطوة سافرة لتصعيد الاصطفاف المذهبي والطائفي في المنطقة يُلقي الاجتماع بالتهمة على إيران: «على إيران أن تلعب دوراً إيجابياً بعيداً عن المذهبية وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى والتوقف عن دعم الإرهابيين ونشر الفتن الطائفية في المنطقة» وكأن إيران هي التي استدعت اجتماعاً طائفياً في المنطقة. هذا الاجتماع أيضاً هو الخطوة الأولى لاجتماعات أخرى قد تليه لاحقاً ربما ليس مع تركيا وإنما مع شريكتها «إسرائيل» ذلك لأن الاصطفاف التركي-الإسرائيلي-الخليجي قد أصبح واضح الأهداف والمعالم ولا يحتاج إلى برهان. كل ما هنالك هو أن هذه الاصطفافات ما زالت تستخدم عبارات غائمة وتدّعي العمل السياسي وذلك من أجل ذرّ الرماد في العيون وعدم وضوح الصورة الحقيقية الخطرة لمثل هذه الاصطفافات الجديدة التي تُنبئ بمرحلة تاريخيّة مختلفة جداً عمّا شهدناه وعهدناه من علاقات في النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين.
وقد تكون هذه العلاقات الجديدة رداً استباقيّاً على تغيّر جوهري في العالم بدأ يؤتي أكله وهو أن الصهيونية لم تعد تحظى بتأييد مسلّم به في أقطاب العالم الأوسع ولذلك سارعت «إسرائيل» وأدواتها في المنطقة إلى دقّ أسافين في جسد بلدان عربية والكشف عن مسار تطبيعي كان قائماً منذ ثلاثينيات القرن الماضي في محاولة لإعادة التوازن لهذا الكيان. إذ إن فقدانه للتوازن وخوفه من تطورات وتصاعد المواقف ضدّه كانا واضحين جداً في هذيان رئيس وزرائه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما أصبحت أكثر وضوحاً في ردود فعله المضطربة على قرار اليونسكو بأن المسجد الأقصى موقع إسلامي مقدس ولا علاقة لليهودية بالقدس. هذا القرار يشكّل صفعة لمحاولات الكيان تهويد القدس، كما يشكّل مؤشراً إلى أن الدول الغربية لم تعد مأخوذة بالدعاية الصهيونية وأن النضال الفلسطيني السلمي على مستوى العالم يمكن أن يغيّر طبيعة هذا الصراع تماماً كما حدث في جنوب إفريقيا. ولهذا ربما يسارع الكيان مباشرة، أو من خلال حليفته تركيا، بتوطيد عرا التواصل مع دول الخليج ومحاولة إيهام العالم أن العرب أنفسهم قد قبلوا بهذا الكيان وبالفتات الذي يقدّمه من أجل حلّ هذا الصراع العربي-الإسرائيلي. وهنا لا بدّ من أن يتكاتف كل العرب الحقيقيين ليرفعوا أصواتهم وليكثفوا جهودهم مع الدول الإسلامية الحريصة على القدس والأقصى بأن كل من يفرّط بحقوقه في القدس أو فلسطين لا يمتّ إلى العروبة أو الإسلام الحنيف بصلة. وهذا يحتاج إلى خطوات عملية تغرز الانتماء السليم وتضع الموقف من القضية الفلسطينية والأراضي العربية المحتلة كمعيار أساس في تحديد الانتماء إلى العروبة والوطن.
ويأتي اجتماع لوزان كغطاء للاجتماعات المشبوهة التي يتم عقدها مع الإرهابيين والمسلحين في العراق وسورية وللتغطية على أحلام عثمانية قديمة جديدة في الموصل وحلب مستغلين ضعف الصف العربيّ وتشرذمه في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الأمة. وتبقى الحقيقة الساطعة هي أن تركيا وقطر والسعودية وبغطاء أميركي وتخطيط إسرائيلي هي التي بدأت كل هذه الحرب على سورية منذ ما يزيد على خمس سنوات وأنها تحاول في لوزان أن تحقق في السياسة ما عجزت عن تحقيقه من خلال دعم الإرهاب وتسليحه. أما ادعاءات الحرص على حلب وشعب حلب وأطفال حلب فما هي إلا غطاء لاستمرار دعمها لمنظمات إرهابية أصبح من الواضح أنها مجرد أدوات لهذه الدول ذاتها لتدمير سورية وإخراجها من صف المقاومة ومن معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي. وفي مواجهة هذه الصيغ المختلفة من الحرب على سورية والعراق أيضاً والتخطيط لنقل وتحريك الإرهاب ودعمه حيثما تقتضي الأهداف المرسومة، لا بد من تفكير عربي واعٍ عبر حدود سايكس بيكو وبالإمكانات والأطراف المتاحة لتشكيل نواة جبهة مقاومة مع الحلفاء والأصدقاء الإقليميين لمنع المخططات المذهبية المعتمدة على الوهابية والإخوان المسلمين من أن تصيغ مستقبل المنطقة.
الصراع اليوم هو على شكل المستقبل وقد أتى الاصطفاف الخليجي-التركي-الأميركي-الإسرائيلي ليؤكد أنه لا بد من جبهة مقابلة تشكل نواتها سورية والمقاومة وإيران وروسيا وكلّ الدول الرافضة للاحتلال والعدوان والإرهاب، هذا هو الصراع بين مشروعي اجتماع لوزان حيثُ لا يشكّل الشعب السوري سوى ذريعة للاصطفاف التركي الخليجي الأميركي لتحقيق مشاريعه في المنطقة. وهذا ما قاومه الجيش السوري وحلفاؤه بالسلاح، وسوف يستمرون بمقاومته في السياسة وخاصة أن دول البريكس تسير بخطا ثابتة نحو خلق توازن دولي جديد يكسر شوكة الهيمنة الغربية ويقف حائلاً من دون تنفيذ مخططات الوهابية والإخوان المسلمين.
إن الحرب على سورية والعراق واليمن وليبيا هي حرب على الدولة الوطنية ومحاولة لإضعافها وتقسيمها، على حين يعمل القطب الجديد برئاسة روسيا والصين لتعزيز دور الدولة الوطنية ومنع التدخل بالشؤون الداخلية للدول، ولا شكّ أن المستقبل هو لهذا القطب وحلفائه.