تدخلات وانسحابات
من المهمّ جداً لدولنا المتضرّرة ولشعوبنا التي تدفع الأثمان القيام بإجراء مراجعات علمية وواقعية لكلّ التدخّلات الأميركية في البلدان العربية، وعمّا أنزلت هذه التدخّلات من كوارث وسفكت من دماء وخرّبت ما بنيناه في بلداننا، وأيضاً علينا دراسة دوافع ونتائج جرائمها وانسحاباتها حين يحدث ذلك؛ إذ لم يعد كافياً على الإطلاق أن نعيش الحدث اليومي بذهنية المياومة، وننتقل من يوم إلى آخر من دون أن نستخلص الدروس والعبر التي يجب أن تؤثّر بشكل فعّال على رؤيتنا لواقعنا ومستقبلنا وعلى قراراتنا. فكما قال المرحوم رمزي كلارك: «لا أحد يعلم حين تمّ تفجير برجي التجارة العالميين في نيويورك لماذا اختارت الولايات المتحدة أن تتّجه بالغزو إلى أفغانستان وبعد ذلك إلى العراق في خطّة تضمّنت اجتياح سبع بلدان في خمس سنوات». كما أنه لا أحد يدرك تماماً حقيقة الدوافع الأميركية للانسحاب من أفغانستان في هذا التوقيت بالذات وبهذه الطريقة، وإن كانت هذه الدوافع تتكّشف للمعنيين والمهتمّين من خلال ارتدادات هذه الانسحابات على الدول المجاورة وعلى العلاقات الإقليمية والدولية. ولم تتمّ إلى حدّ اليوم دراسة علاقة التدخلات والانسحابات العدوانية الأميركية بالعقوبات التي تفرضها على البلدان ذاتها أو على غيرها من البلدان. إن هذه الأسئلة وكثيراً غيرها بحاجة إلى مراكز أبحاث تستخلص الدروس والعبر، وتقدّم مفاهيم وطرائق تفكير وتخطيط تكون، ومن دون شكّ، ذات قيمة جليلة للدول التي تعاني هذه التدخلات أو العقوبات أو كليهما.
كما قال رمزي كلارك لم يعلم أحد ما علاقة أفغانستان أو العراق بأحداث الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة الأميركية، ورغم أن الأسباب التي قدّموها لغزو هذين البلدين خارج إطار الأمم المتحدة برهنت أنها أسباب كاذبة ولا صحّة لها، فإن العالم استكان لأن الولايات المتحدة تشكّل القوة العسكرية الأعظم في العالم، أي إن منطق القوة هو الذي طغى على ردود أفعال المجتمع الدولي. لقد كانت ذرائع غزو أفغانستان تتلخّص بمحاربة الإرهاب الذي ضرب في نيويورك، والقضاء على طالبان بعد اجتثاث جذور القاعدة، ولكنّ ما حدث بعد عشرين عاماً من ذلك الادّعاء هو أن الولايات المتحدة سلّمت أفغانستان وحدودها مع الدول المجاورة إلى طالبان، قاصدةً ربما أن تفجّر قنبلة طالبان في وجه روسيا والصين وإيران، وأن تشجّع أي إسلام متطرّف يركن في غرب الصين على التشابك والتعاون مع طالبان لزعزعة استقرار الصين وتهديد وحدتها، وطبعاً الصين أكبر وأقوى من أن يؤثر عليها مثل هذا التهديد، ولكن قد يشغلها ويبدّد بعض مواردها. والمقارنة واجبة بين وضع أفغانستان قبل الغزو الأميركي في ذلك البلد، ووضعها بعد ذلك، وحتى وضع أفغانستان منذ خمسينيات القرن الماضي ووضعها اليوم لأن هذه المقارنة تبرهن بالأرقام على الكوارث المجتمعية والسياسية والاقتصادية والتربوية التي خلّفها هذا الغزو على الشعب الأفغاني المسلم، والتي تحتاج إلى عقود وميزانيات ضخمة وتنظيم وإرادة للتخلّص من عواقبها وإعادة بناء البلد من جديد.
وفي مثال أقرب إلى واقعنا العربي، وإلى ما نخبره ونعرفه عن هذا الواقع، يمكن لنا أن نتفحّص الغزو الأميركي في العراق، وأن نستخلص منه النتائج التي تنطبق على معظم البلدان التي تعرّضت لمثل هذا الغزو العسكري في أوقات مختلفة من التاريخ. إذ رغم كلّ الشوائب والهنات، فقد كان العراق العزيز البلد العربي الذي يخرّج المفكّرين والعلماء والشعراء، وكان سوق المتنبّي في بغداد السوق الوحيد في العالم المتخصّص بالكتب فقط، وكان العراق البلد القارئ الذي يضمن طباعة آلاف النسخ من أي كتاب يصدر من المغرب إلى الكويت، لأن العراق القارئ سيتكفّل بشراء معظم هذه النسخ، وكانت إنجازات العلماء العراقيين قد أوصلت العراق إلى مراحل متقدّمة في البحث العلميّ، وكان التعليم في العراق من أفضل النظم التعليمية في العالم العربيّ، ولكنّ الغزو الأميركي للعراق، الذي حدث تحت راية تفكيك أسلحة الدمار الشامل، والتي برهن الزمن ألا وجود لها، استهدف البنية التحتية العراقية، والعلماء العراقيين والجيش العراقي والحزب والمنظمات والآثار وكلّ فئات الشعب الذين تمّ إفقارهم وقتل وتهجير الملايين منهم، وكتب الحاكم العسكري الأميركي للعراق بول بريمر، دستوراً يضمن عدم قدرة العراقيين على توحيد صفوفهم وبالتالي توحيد جهودهم لإجهاض كلّ ما أتى به المستعمر من نيات تقسيمية وتخريبية تحقّق للمستعمرين نهب النفط العراقي، وتبقي العراقيين في بيئة فقيرة طاردة للعلم والعلماء والطبّ والأطباء ولكلّ ما يمكن أن يشكّل مؤشراً أو مبادرة بعودة الحياة إلى العراق ليصنعها العراقيون بأيديهم، وليعيدوا بناء وطنهم، وليكونوا هم أسياد الموقف.
ما يتسرّب اليوم من نقاشات حول نيات محتملة للولايات المتحدة بالانسحاب من العراق يشي بمحاولات انسحاب مماثلة لما حدث في أفغانستان، بحيث يبقى المستشارون الأميركيون يديرون البلاد، والمخابرات الأميركية تضمن عدم اشتداد عود أيّ مقاومة لمحاربتها أو لتغيير المسار الذي رسمته القوات الأميركية للعراق والعراقيين، والقوى الجوية الأميركية التي تتكفّل بالقضاء على أي نقطة مقاومة في أي مكان من أرض العراق، على حين تأخذ التيارات الانفصالية التمويل والدعم، وتطلق يد العثماني الجديد في احتلال ما يشاء من أرض العراق العزيز، ويبقى الجميع في حالة وهن غير قادرين على مواجهة هذا الأخطبوط الذي أحكم أسباب استمرار ضعف العراق وعجزه عن استثمار نفطه لتوليد الطاقة والارتقاء بمستوى الخدمات والتعليم، وإعادة تقويم البيئة بحيث يتمكّن العراقيون من تأهيل الأجيال القادمة لتغيير دفّة مستقبل العراق من بلد يحكمه مستشارون أميركيون ليضمنوا استمرار ضعفه، ونهب ثرواته، إلى بلد يحكمه أبناؤه، ويراكمون عوامل قوّته، ويفتحون الأبواب للشعب العراقي لاستثمار طاقاته الفكرية المتميّزة لإعادة بناء هذا البلد ليكون منارة للمنطقة العربية والعالم.
ما نراه اليوم يبرهن على أن الانسحاب الأميركي من الدول التي تدخّلت بها قد لا يقلّ خطورة عن الغزو، لأنه صُمّم ليضمن استمرار البلد على الشاكلة التي أنتجها كلّ من الغزو والعقوبات مكبّلاً كلّ الطاقات، ومشكّلاً مصدر تهديد دائم لكلّ من تسوّل له نفسه تحدّي هذه الخريطة التي وضعها المستعمر ويشرف على تنفيذها للسنوات وربما للعقود القادمة. ولا بدّ أن نذكر أيضاً أن هذه البلدان التي عانت الغزو العسكري الأميركي، والتي من المفترض أنها تشهد انسحاباً لهذا الوجود العسكري سوف تبقى جاثمة تحت العقوبات الأميركية إلى ما لا نهاية، ولا يقدّم هؤلاء المستشارون المختارون للإشراف على استعادة صحة البلد أي اقتراح لرفع هذه العقوبات أو شرح لتأثيرها المدمّر على حياة الشعوب. وبهذا تبقى العقوبات جزءاً من مخططات الانسحاب الذي يكفل بقاء البلد جاثمأ في أتون الفقر والتخلّف، ويضمن نهب ثرواته لمصلحة الغازي المحتلّ على مدى العقود القادمة.
هذه هي حقيقة الادعاءات الأميركية بنشر الحرّية والديمقراطية، والحرص على حقوق الإنسان، ولو أن الظروف تسمح لباحثين صادقين أن يدرسوا هذه الحالات من الغزو إلى الانسحاب والعقوبات على بلدان عديدة في العالم، لتوصّلوا إلى نتائج تغيّر مفاهيم البشرية مرة وإلى الأبد، وتستوجب إعادة كتابة التاريخ العالمي كي لا تنشأ الأجيال القادمة وهي تمضغ الأكاذيب ذاتها والقصص المضلّلة والمنفصلة تماماً عن الواقع التي تدفع ثمنها شعوب بلداننا دماً وحرقةً وحسرةً ومعاناةً لا نهاية لها في كل المجالات ووفق أقسى المعايير الإنسانية للمعاناة. لا شكّ أن هذا مشروع بحثي كبير ومهمّ، أرجو أن يلتقطه ذوو الكفاءة ويعملوا على تأسيسه لأنه من الضرورة بمكان لنا ولأولادنا وأحفادنا من بعدنا.