حدث في دمشق
كانت صديقتي تركن سيارتها في مكانها المعتاد، وتتجه نحو بهو البناية لتصعد الدرج إلى شقتها، وفجأة وجدت نفسها ملقاة على الأرض برجل مكسورة تماماً وألم شديد، لم تتمكن بعده من الحراك. وقفت سيارة في الشارع قربها وبها أب وأمّ وأبناء، فطلب الأب والأمّ من الأبناء الثلاثة أن ينزلوا من السيارة ويستقلوا سيارة أجرة إلى مكان العشاء العائلي المرتقب وتساعد الزوج والزوجة بحمل صديقتي إلى المقعد الخلفي من سيارتهم وذهبا بها إلى أول مشفى حيث لم تكن لديه طوارئ، ومن ثمّ إلى المشفى الثاني والثالث إلى أن اطمأنا عليها في طوارئ مشفى جاهز أن يباشر بعلاجها فوراً، ولم يذهبا إلّا بعد أن حاولا أن يدفعا للمشفى مهما بلغت التكلفة، وحين حاولت أن تتعرف على اسم هؤلاء الخيرين المنقذين رفضا واكتفى الرجل بالقول أبو عبد الرحمن. صديقتي المريضة محجبة، ولفتت نظري إلى أنّ الزوجة كانت غير محجبة ولا معرفة سابقة لها بهما أبداً.
ولم يغادرا إلا بعد أن وصل أهل وأصدقاء صديقتي واطمأنا عليها تماماً. وكلّ ما كانت تتمناه هو أن تتعرف عليهما شخصيّاً ولكنّهما رفضا، وحسناً فعلا لأنّهما مثّلا في ضميرها وضميري الإنسان السوريّ الشّهم الرحيم، وعبّرا عن هذه اللّحمة الاجتماعيّة الوطنيّة الإنسانيّة التي هي عابرة للانتماء الديني والعرقي والطائفي، وعلّ هذه هي أعلى قيمة يتمتع بها الشعب السوريّ وأجمل مزاياه الوطنيّة التي تجعل الحياة أماناً واطمئناناً بين أبناء البلد الواحد.
قالت إحدى الصديقات الزائرات: كم أحزن أنّ البعض يعتقدون أنّ الخلاص لهم ولأولادهم يكمن في تأمين حياتهم خارج ترابهم وأرضهم ولا يكتشفون إلّا لاحقاً أنّهم خسروا البيئة التي ينتمون إليها وأصبحوا أرقاماً في بلدان بعيدة لا رحمة فيها إلّا لمن أصبح ميسور الحال، وبقي واقفاً على قدميه. الإشكالية أكبر من أن يمكن حلّها في تفسير أحادي الجانب أو من وجهة نظر واحدة لأنّ تداخل الشخصي بالمجتمعي والمهني والعائلي والمستقبلي أمور تحتاج إلى رويّة ودراية ودراسة معمّقة تأخذ بالحسبان مردود الأجيال على أوطانهم ومسبّبات الهجرة التي تستنزف بلداننا العربيّة وتسلبها طاقتها من خيرة أبنائها الفاعلين والمهنيين في سن الشباب.
حين سألت المرحوم الدكتور فاخر عاقل: لماذا لا يعود أولادك الثلاثة من الولايات المتحدة وهم يحتلون مراكز مرموقة ويمكن لهم أن يسهموا في النهوض بالجامعات السوريّة، أجاب: أين البيئة البحثية التي تمكّنهم من الاستمرار والارتقاء في الإبداع والإنتاج؟ والمشكلة المحيرة أنّ هذه البيئة لن يخلقها إلّا هؤلاء الذين اعتادوا عليها والذين يتملّكهم الشغف بها، ولكن لابدّ من خلق ظروف أوليّة قادرة على مساعدتهم في وضع اللبنات الأساسيّة لهذه البيئة ثمّ توسيع دائرتها وأطرها حتى تصبح ذات تأثير ونفوذ قادر على استنهاض البيئات الأخرى. قد يكون واضحاً للبعض أن أخطر ما تعاني منه أمّتنا العربيّة هو مسألة الهدر، الهدر في الطعام وفي الموارد والهدر في المال وهدر الثروات الطبيعيّة وتجييرها لمصلحة الخصوم والأعداء، ولكنّ الهدر الأهم والأخطر هو هدر الموارد البشرية الذكية الفاعلة المبدعة. إذ لا يختلف اثنان، على سبيل المثال لا الحصر، أنّ السوريين والعراقيين واللبنانيين والفلسطينيين متفوقون في الطب والهندسة والرياضيات وعلوم التقانة في الولايات المتحدة والدول الأوربيّة وأرجاء العالم المتقدّم، وأنّ مواهبهم ملاحظة ومقدّرة هناك. ما الذي يمنع هؤلاء إذاً في بيئاتهم الطبيعيّة من التميّز والتفوق والإبداع؟ أعلم أنّها أسئلة صعبة وخطرة، والأجوبة عليها ليست بسيطة ولا سهلة، ولكنّ الثابت في الأمر هو أنّ غالبية الذين يشدّون الرحال للهجرة يعيشون تجربة الحنين إلى بلاد الآباء والأجداد، وإلى مجتمعات الرحمة حيث يشكّل النسيج الاجتماعي الداعم للفرد والأسرة أساساً متيناً وضمانة لكلّ الخلايا البشرية العاملة ضمنه ومن خلاله. هل يعقل أن يكون طموح الشباب من المحيط إلى الخليج هو الهجرة؟ الهجرة التي لا تقيم وزناً للكرامة، أو الجذور أو الثقل الاجتماعي الذي يتمتع به هؤلاء في بلدانهم الأصلية. وما الذي هو أغلى من الكرامة والشعور بالأمان والاطمئنان على الأرض التي نبتنا عليها والتي مازالت تمتعنا بالفصول الأربعة وبأطيب الثمرات التي يصاحبنا مذاقها كجزء أساسي من هويتنا وشخصيتنا التي نمت وترعرعت في ظلال الشمس وتحت ضوء القمر والسماء الفريدة في ألوانها وحنّوها على أبنائها في الأرض.
هل النظام التعليمي المتدهور وسوء التعامل مع النخبة المثقفة هما بعض الثغرات التي تسهم في البحث عن بديل؟ أم هل سلّم الرواتب اللاواقعي واللامنطقي يشكّل حافزاً لكلّ هؤلاء للمغادرة لأنّ إعادة الأمور إلى نصابها المنطقي أمر يتجاوز قدرات الفرد وإمكاناته؟ هل الثراء السريع لأفراد وشرائح صغيرة في المجتمع فرضت جهلها وثرواتها كقيمة مجتمعيّة، ضاربة بعرض الحائط دور المثقفين والمعلمين والخبراء والطّبقة الوسطى من الاختصاصات كافة، هل هذا يشكّل عامل يأس وإحباط لدى الشباب الذي يعلم أنّه مهما تعلّم وعمل فلن يصل إلى أسفل السلم الماديّ الذي ارتقاه هؤلاء دون عناء وبسرعة قياسية؟! هل تجاهل القيم المجتمعيّة الراقية التي سردنا أنموذجاً عنها في بداية هذا المقال عامل يضاف إلى العوامل التي تُدخل اليأس في قلوب الشباب فلا يجدوا مجالاً سوى مغادرة الأرض بكل ما تحمله من تناقضات والسعي لإيجاد واقع أكثر منطقية ورحابة لاستيعاب قدراتهم وتجاربهم؟ لاشكّ أنّ الثقافة المجتمعيّة الأصيلة في مجتمعاتنا تشكّل حافزاً لنا جميعاً لنعشق هذه البلدان ونعمل على أرضها والتوق للاندماج بترابها ولكن هناك عملاً حثيثاً وصعباً ومهماً كي نحوّل حلم الشباب من الحصول على فيزا وجواز سفر إلى العمل المبدع والمنتج على أرضنا وبين أهلنا لنضيف إلى تاريخنا صفحات مشرقة ونطهّره من كلّ ما لحق به من عبث وظلم وسوء إدارة.