سبعون عاماً.. مثال يحتذى
تحتفل جمهورية الصين الشعبية بعيد استقلالها السبعين من الاستعمار البريطاني بعد قرن وصفه الصينيون بأنه قرن من المذلة نتيجة الإجراءات الاستعمارية البغيضة التي استهدفت شعباً ذا حضارة من أعرق حضارات الأرض. ويتزامن هذا الاستقلال تقريباً مع معظم تواريخ استقلال الدول العربية من الاستعمارين الفرنسي والبريطاني ولكنّ المحطة التي توصلت إليها الصين بعد سبعين عاماً من العمل المنظّم والهادف تختلف اختلافاً جذرياً عن المحطات التي توصلت إليها معظم الدول العربية، وذلك نتيجة اختلاف الرؤى والاستراتيجيات وطرائق العمل والأهداف المنشودة. فمن الناحية الاقتصادية ذكر السفير الصيني في دمشق في حفل عيد استقلال بلاده أن الاقتصاد الصيني قد تضاعف أكثر من ألف مرة بين عامي 1949و 2019 وأن المستوى المعيشي الذي حققه الصينيون خلال هذه الفترة احتلّ رقماً قياسياً بسرعة تطوّر البلدان والشعوب، وانعكاس هذا التطوّر على كلّ أفراد الشعب. ولكن القيادات الصينية لا تذكر هذا بنوع من الركون إلى ما تمّ إنجازه والاكتفاء به، بل بهدف تحفيز استكمال العمل لسدّ كلّ الفروقات بين الريف والمدينة وإنعاش أنواع الاقتصاد التي مازال انتعاشها بطيئاً إلى حدّ الآن، واستكمال تنفيذ الخطط والرؤى الموضوعة بعناية ودراسة فائقتين لتحقيق هذه الأهداف.
واللافت فيما حققته الصين خلال هذه العقود السبعة أنها نشدت تنمية متوازنة في كلّ القطاعات الصناعية والزراعية والتقنية والعسكرية والخدمية، بحيث تجد أياً من هذه القطاعات يعكس وبشكل علمي وموضوعي التقدّم الحاصل في القطاعات الأخرى ذلك لأن الصين لم تستورد قناعاتها وخططها من تفكير ومدارس ليبرالية تظهر مع كلّ مطلع شمس بنظريات جديدة عن أولوية القطاعات وأكثرها ربحاً وتأثيراً على تقدّم المجتمعات، بل عكفت القيادات الصينية المتعاقبة على دراسة واقع الصين من جميع النواحي، وواجهت هذا الواقع بشفافية وصدق وجرأة ووضعت الخطط الكفيلة بالنهوض بهذا الواقع ضمن برنامج زمني مدروس لا يميل إلى السرعة غير المدروسة ولا إلى التريث غير الهادف، والأهم في الأمر ربما هو أن الصين اعتمدت أسلوب التخطيط الجماعي، والعمل الجماعي المستند أصلاً إلى المؤسسة والمؤمن بالنخبة العلمية والفكرية التي تقود البلاد إلى برّ الأمان. وجميعنا يتذكر حين حاول الغرب استهداف الحزب في الصين وأن حكم الحزب الواحد لم يعد ممكناً أو مجدياً بل يجب إحلال التعددية الحزبية من أجل الديمقراطية، كيف صمّت الصين أذنيها عن كلّ هذه المقولات الغربية الليبرالية والتي كانت في الأصل تهدف إلى أن تعيد صياغة الصين إلى النموذج الغربي والذي يضمن تبعية الجميع له. وهذا هو مصدر خيبة أمل الغرب اليوم حيث قال أحد الكتاب مؤخراً في استعراضه لما تخطط له الصين على مستوى العالم: «بدلاً من أن تروا الصين في المستقبل تشبه بقية دول العالم سترون دول العالم تشبه الصين». طبعاً هذا الكاتب يفكّر بالطريقة الغربية ويحاول أن يحذّر العالم من الأنموذج الصيني، ولكن بالنسبة لكلّ الشعوب التي عانت من الهيمنة الغربية فإنه يسعدها أن تشبه الصين بأسلوب تحرّرها وتخطيطها الإستراتيجي وقدراتها على اختصار المراحل وتحقيق إنجازات على كلّ الصعد وبسرعة قياسية. والحقيقة أن التجربة الصينية في التحرّر الحقيقي من ربقة ومخلفات الاستعمار جديرة بالدراسة وهي إذا ما دُرست بشكل علمي وتمت الاستفادة منها يمكن أن تختصر الوقت والجهد لبقية الدول الطامحة إلى إنجازات مشابهة.
لقد ركزت الصين على النخب وحين توصلوا إلى وضع إستراتيجية لعام 2030 وأخرى لعام 2050 كانت تتم مناقشة هذه الإستراتيجيات، وعلى مدى سنتين من قبل أكثر من مليوني مختص بالشؤون قيد الدراسة. ونلاحظ أن الخطط الصينية والرئيس الصيني شي جين بينغ في كلّ خطة يولون أهمية كبرى للعلماء والمختصين والتقدم التقني كما أنهم لا يغفلون أبداً دور المجتمع الأهلي والمنظمات الأهلية في رفد عملية التطوير والبناء، ولكنهم وفي كلّ هذا وذاك وضعوا علامة فارقة جداً بينهم وبين الدول الاستعمارية بحيث اعتمدت إستراتيجيتهم على احترام الشعوب والدول وعلى النديّة في العلاقات الدولية وعلى احترام الاختلاف واحترام الثقافات والحضارات الأصلية للشعوب ودعوة هذه الشعوب للبناء على موروثاتهم الإيجابية والحفاظ عليها وتطويرها بما يخدم سعادة ورفاه شعوبهم، ويكفي مثلاً عن احترام الصين للآخرين هو أنها تعطي أبناءها العاملين مع ثقافات أخرى أسماء من هذه الثقافات لتسهيل التعامل معهم وحفظ أسمائهم في حين يعمد الأميركيون وفي اجتماعات رسمية إلى استخدام اختصارات محليّة جداً وينظرون لمن لا يفهمها وكأنه مقصّر أو قليل ثقافة. أمر صغير ولكنه ذو دلالة كبيرة للموقف من الآخر واحترامه واحترام ثقافته التي نشأ عليها. وقد اعتمدت الصين في تحقيق كلّ هذه الأهداف على تربية أجيالها تربية وطنيّة عصيّة على الاختراق حيث تستوعب رياض الأطفال 90 بالمئة من أطفال الصين مع التخطيط لاستيعاب كلّ أطفال الصين. في هذه السنوات الجوهرية لتكوين شخصية الإنسان يتلقى الأطفال الصينيون جرعة فكرية وطنية تحصّنهم ضد كلّ محاولات الاختراق الفكرية والسياسية والخدمية طوال حياتهم. فقد صرّح ديك تشيني مؤخراً أننا قبلنا آلاف الطلاب الصينيين في الجامعات الأميركية آملين أن يشكلوا جذوة للتغيير في الصين لدى عودتهم ولكننا فوجئنا أنهم تلقوا تعليمهم في كلّ الاختصاصات وعادوا كما أتوا صينيين مئة بالمئة. هذا هو ما أخفق العرب إلى حدّ اليوم من إحداثه وتطويره ألا وهو التركيز على التعليم من سني رياض الأطفال إلى المدرسي والجامعي لتحصين أبنائنا مرة وإلى الأبد ضدّ كلّ محاولات الاختراق المعادية كما لم يتم التركيز على النخب التي تضع الرؤى والإستراتيجيات وتقود أيضاً عملية تنفيذها بكفاءة وإيمان عميقين. ولا شك لدي حتى دون الاطلاع على ورقيات المراسلات الصينية أنهم لا يعرفون في معاملتهم عبارة «للتريث» أو «للإعادة» أو «التحويل إلى لجان أخرى». الأمر الذي يستغرق دهوراً في عالمنا العربي. كما أن كلّ ما يفكّرون به ويخطّطون له يتحول فوراً إلى وثيقة مكتوبة معتمدة لخطة عمل متاحة للجميع لفهمها والمتابعة من خلالها في حين مازالت الأمة العربية أمة المخاطبة بالشفاهة ومازالت الوثيقة المكتوبة مصدر خوف وتردد لدى الكثيرين. سبعون عاماً من العمل الجاد المثمر ولّدت تجربة صينية جديرة أن تكون منارة ومثالاً لكلّ الشعوب والدول التي عانت من الاستعمار والطامحة فعلاً إلى صنع مستقبل كريم ومستقل يليق بثقافة وحضارة وكرامة شعوبها.