مقالات

صاحب قضية

في هذا الزمن المتسارع الأحداث كماً وكيفاً قد تفوتنا دراسة بعض التفاصيل المهمة، التي إن تمّ الانتباه إليها قد تشكّل قيمة مضافة في فهم مجريات الأمور، كبيرها وصغيرها.

في هذا الزمن يتحدث الكثيرون، وبشكل عفوي عن مفترق طرق محلّي وإقليمي ودولي، ذلك لأن الكثيرين يشعرون أنهم يفقدون خصائص العالم الذي ولدوا وترعرعوا فيه، دون أن يدركوا حقيقة العالم الذي يتشكّل، أو الصورة النهائية التي سيستقر عليها هذا العالم.

في مثل هذا المفصل تكثر التفسيرات، والاجتهادات دون أن يكون أحد مضطراً أن يقدّم براهينه على استقراءاته ونظرياته، إذ لا براهين بعد على أي شيء، بل مجرد قراءات، واستنتاجات، وتأملات، وتوقعات، ففي هذا الزمن مثلاً يعقد المنافق الأول في القرن الواحد والعشرين قمتين عن فلسطين خلال ستة أشهر، بينما تذبح فلسطين أكثر وأكثر، وهو غارق في دعم الإرهاب، والإرهابيين، واحتلال الأرض التي أنجبت المقاومة الحقّة لاحتلال فلسطين، ولا شك أن هدفه ليس قضية فلسطين ولا الشعب الفلسطيني، ولكنّ هدفه هو أن يستقطب انتباه كلّ من يؤيد فلسطين، ويخفف الضغط عن دول الخليج المتواطئة ضد فلسطين وشعبها، وزيادة شعبيته في الداخل التركي قبيل الانتخابات التي يعتزم خوضها قريباً.

في هذا الزمن أيضاً، آخر مستعمر على وجه الخليقة، رئيس وزراء الكيان الغاصب، يصف مجلس حقوق الإنسان، الذي أمر بتشكيل لجنة للتحقيق بجرائمه المشينة بحق الشعب الفلسطيني، «بالمنافق» بينما يقف هو تجسيداً حقيقياً للنفاق والطغيان في عالم اليوم.

في هذا الزمن يذبح أكثر من ستين مدنياً فلسطينياً عزل من السلاح، ويجرح الآلاف من الأطفال والنساء والعزل دون أن تتحرك الأمم المتحدة أو الضمير الدولي، ودون أن تثير المندوبة الأميركية في مجلس الأمن جزءاً بسيطاً من الضجة الكاذبة التي أثارتها حول موضوع الكيميائي وهي تخادع العالم بحرصها المنافق الكاذب على أهالي الغوطة، ومن قبلها حلب وأي نقطة شكلت انتصاراً، ومنعطفاً إيجابياً للجيش العربي السوري.

في هذا الزمن يقف رئيس أقوى دولة في العالم ليعلن أنه يريد نهب نفط العراق والخليج، كما ينهب نفط ليبيا، وأنه لا يوجد شعب في هذه البلدان بل لا بلدان حتى، بل مال وذهب ونفط للنهب فقط، وهو يعتبر الولايات المتحدة كدولة غازية صاحبة حق مشروع بهذا النفط والمال كغنيمة حرب.

في هذا الزمن تقف الصهيونية إيفانكا ترامب، التي أغدق عليها حكام السعودية المال والهدايا، لأنها شرفتهم بزيارتها فمنحوها مئات المليارات من الدولارات، تقف لتفتتح السفارة الأميركية في القدس ضد كلّ قرارات الشرعية الدولية، وقرارات الكونغرس الأميركي نفسه.

في هذا الزمن اختلط الحابل بالنابل وتراجعت القيم في أنظار الكثيرين وعزّ صدور مواقف شامخة وجريئة ضد الظلم وانتصاراً للحقن ولكن ورغم كل هذا وذاك، ورغم كلّ ما نشهده من انقلاب على القيم السمحة للأديان السماوية والأخلاق الحميدة للإنسانية، ورغم كلّ ما نشهده من جبن مستفحل في مواجهة الأقوياء ونصرة الضعفاء، تبقى أنت أيها الفلسطيني المقاوم قابضاً على قضيتك كالقابض على الجمر، وتغادر منزلك في الصباح مدركاً أنك قد لا تعود إليه فقط لتقول لا للظلم والاحتلال والعدوان، وأنت لا تملك حتى الحجر في تلك الأرض الترابية الرملية، تغادر منزلك مع زوجتك وأطفالك، أو تودعهم، وتذهب لأن القضية في ضميرك، ووجدانك أكبر من أن تضيع في حمأة كلّ هذه المتغيرات المتسارعة ولأنك قررّت أنك ورغم عدم امتلاكك أي سلاح مقاوم قد عقدت العزم على أن تستحضر المهاتما غاندي، وأن تقاوم سلمياً ولو كان أعداؤك لا يفهمون السلام، ولا يؤمنون به فأطلقوا النار عليك وسقطت مضرجاً بدمائك كي تشهد دماؤك أن فلسطين حيّة باقية لا تموت ولن تسقط بالتقادم.

سقطت أنت وأخذ زملاؤك، وأحباؤك يتساقطون وزملاؤهم يحملونهم ويركضون إلى الإسعاف أملاً في إنقاذ حياتهم، وخلال ساعات يشاهد العالم المنافق، والجبان عشرة، عشرين، ثلاثين، أربعين، خمسين، ستين شهيداً، وآلاف الجرحى يسقطون برصاص صهيوني مستعمر غادر، وعالم الطغاة والحكام الخونة، يتفرج ولا يجد في كلّ هذا انتهاكاً لحقوق الإنسان، أو مجزرة مروّعة بحق الإنسانية.

ما فعلته أنت أيها الشهيد، الجريح، المقاوم في هذا الزمن الغريب شيء عظيم فقد أثبتّ للعالم أن أصحاب القضايا لم يموتوا بعد، وأنهم يولدون كلّ يوم حاملين مشاعلهم على طريق التضحية، والفداء، وأن النظريات الحديثة بالخلاص الفردي، وجمع الثروات ليست الوحيدة المطروحة في عالم اليوم، وأن هناك من الشرفاء ما يكفي لتحريك ضمير العالم دعماً لقضاياهم وأنهم يورّثون حبّ الشهادة لأطفالهم وأن بلداً كفلسطين ينجب كلّ يوم أصحاب قضية سوف لن يرزح إلى الأبد تحت استعمار غاشم عنصري ومجرم.

لقد أعدت لنا أيها العربي المقاوم جميعاً الاعتبار بأننا لسنا موظفين، ولا متخاذلين، ولا قابلين بما نشهده، ونعيشه ولكننا لم نتمكن بعد من اجتراح آليات العمل القادرة على إعادة الحق إلى أصحابه الشرعيين ولكنّ دماؤك تشكّل معيناً لا ينضب على هذا الطريق وتخرس دعاة الاستسلام من حكام وأفواه وأقلام مرتزقة، الذين يشيعون أن ما يخطه ترامب وإيفانكا قدر محتوم.

دماؤك أيها الفلسطيني العربي المقاوم شعلة على طريق طويل ما زال يرتاده أصحاب قضية يعملون كلُ بطريقته، وكلُ حسب إمكاناته، واختصاصه، منتظرين الساعة التي تؤتي أعمالهم أكُلها وهم واثقون أنها قادمة لا محالة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى