عزيزي محمود العارضة
كم فكرت بكل كلمة من كلماتك وأنت تعلن أنك فكرت بعملية الهروب من السجن وخططت لها ونفذتها أنت وزملاؤك الأبطال بصبر وذكاء وأناة كي تحظى بعناق والدتك وكي تتذوق نسيم فلسطين وتمسك بقبضة من ترابها وتتناول فاكهة الصبر.
كم خجلت منك ومن زملائك لأن مئات الملايين من العرب تركوكم لأقداركم، أنتم الذين آمنتم بأرضكم وسمائكم وقضيتكم، ووهبتم أرواحكم وأجسادكم كي تبقى شعلة النضال مضيئة وكي لا يقال إنهم مرّوا من هنا واحتلوا واستوطنوا وهجّروا من دون مقاومة تُذكر. لقد عبّرت حروفك الطاهرة عن احتضانك أرض فلسطين وسهولها وجبالها وكأنها صنوٌ لوالدتك التي رحلت من دون أن تتمكن من عناقها فكنت في النضال والإخلاص «أمة» بأسرها.
استجوبوك ليعلموا ما العمليات التي كنت تخطط لتنفيذها منذ تحريرك غير آبهين أن أهم عملية هي أن تلفّك أمك في حضنها وأن تسير في الجبال والوديان تعانق الأرض والسماء التي عشقتها وحُرمت منها لعقود. هم لا يدركون ما معنى التعلّق بالأرض والأهل والوطن والثقافة والتاريخ، ولا فكرة لديهم كيف يتبنى الإنسان وطناً ويتماهى معه فيصبح هو هذا الوطن بجماله وعراقته وصموده ومستقبله.
ولكني وفي جلسة المصارحة هذه معك أقول لك: لقد تحملتم أعباء فوق طاقتكم لأن آليات العمل والنضال في مجتمعنا العربي ككل لم تتطور إلى درجة تخفف من الكلفة وتضاعف من النتائج، علماً أن القاعدة الذهبية لذلك معروفة ومجرّبة وقد استثمرتها شعوب عدّة في طول البلدان وعرضها؛ فرغم أن قضايانا أعدل من عادلة ورغم وجود الملايين المتمسكين بقضاياهم إلا أن أحداً لم يعمل على إنشاء آلية تصهر جهود الجميع في بوتقة واحدة وتؤدي النتيجة المطلوبة فبقينا أفراداً في سجون انفرادية حقيقية أو مجازية؛ حيث إن انحباس العقل والتخطيط والإرادة في حدود الذات الواحدة لا يقل خطراً وعجزاً عن الذات المكبلة بالأصفاد في اليدين والرجلين، والحل الوحيد الواضح الذي اتبعته الأمم التي تمكنت من الارتقاء هو الانصهار في فريق عمل وبخطة واحدة ومدروسة وهدف ترنو عيون الجميع إلى تحقيقه.
ومع بساطة هذا الحل فإن الشعب العربي في جميع أقطاره من المغرب إلى العراق لم يتمكن من اجتراحه وتبنيه بشكل واضح لا لبس فيه، ذلك لأننا لم نضمّن المناهج التعليمية منذ الصغر الانخراط في فريق العمل ولم يقارب التلاميذ أي مشروع كفريق واحد يحقق النجاح ويستخدم في شرحه كلمة «نحن» بدلاً من «أنا». علماً أنه لا يوجد شيء أهم من زرع هذا المبدأ في أذهان الناشئة لأنه الخلية الحيوية الضرورية للانتماء الجمعي للوطن والعمل من أجل مستقبل الأوطان والأجيال.
ولعلّ هذا هو السبب أن المشاريع القومية الوحدوية التي تألقت في القرن الماضي واجهت كل أنواع التشكيك والتآمر بذرائع لا أساس لها من الصحة، فقط لأن هذه المشاريع تحاول خلق بيئة لعمل جمعي يضمن مستقبل البلاد والعباد. ونلاحظ أن القوميات الأخرى التي كانت تنافس القومية العربية قد حظيت بكل أنواع الدعم والتأييد مما يدل على استهداف مستقبل العرب من خلال استهداف أي مشروع يمكن أن يوحد كلمتهم أو يستجمع قواهم كي يشكل منهم قوة إقليمية يحسب لها حساب وتحفظ كرامة الأجيال العربية وتقدّم لهم سبل العيش والتفوق على أرضهم بدلاً من الحلم بالهجرة حالما يتفتح وعيهم على واقعهم ويدركون الفرق بين حال العالم وحالهم.
وبنظرة سريعة إلى الدول المتقدمة التي كانت ولا تزال استعمارية نلحظ عوامل قوتها التي لم نستفد منها أبداً؛ فما زلنا كعرب نعمل على استيراد كل ما ينتجه الغرب، إلا ما ينتجه من فكر وذكاء وأسلوب عمل؛ فقد تمكن الغرب الرأسمالي من تقويض الأسس التي بني عليها الاتحاد السوفييتي من خلال إعلامه وعمله الدؤوب على مدى عقود ليتمكن من تفكيك هذه الإمبراطورية التي أقلقته إيديولوجياً وحضارياً وإنسانياً فتربع وحده على عرش العالم منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي محاولاً أن يصيغ العالم كله على شاكلته وأن يصدّر له ديمقراطيته من دون تغيير أو تعديل وأن يفرض عليه بالقوة أو بالحسنى أسلوب عيشه ونمط تفكيره.
ولكن فترة الاسترخاء هذه انتهت مع ظهور الصين على الساحة الدولية وبلوغها المرتبة الأولى عالمياً في الصناعة والنمو والابتكار والتقانة؛ فبدأ الغرب بالتفكير والتخطيط كي لا يسمح لهذا النموذج أن ينافسه عالمياً، وخاصة أن الصين وروسيا تمثلان أنموذجاً مختلفاً جداً عن الغرب، وجذاباً لجهة التزامه بالشرعية الدولية وسيادة الدول والمساواة بينها في الحياة الكريمة والمصير الواحد للبشرية. فماذا فعل هذا الغرب؟ بدأ يعيد التفكير بخططه الإستراتيجية ويغيّر من تحالفاته ومقارباته وأولوياته كي ينجز الأولوية الأولى وهي عدم السماح للصين أن تصبح قوة منافسة؛ ومن هنا أتى التحالف الأميركي البريطاني الأسترالي «أوكوس» لتزويد أستراليا بغواصات تعتمد الدفع النووي في جنوب أستراليا لحيازة الكلمة العليا لهذا التجمع في المحيطين الهادئ والهندي، رغم أن هذه الصفقة أوجبت خرق اتفاق موقع سلفاً بين فرنسا وأستراليا تشتري بموجبه أستراليا هذه الغواصات بمليارات الدولارات من فرنسا.
اليوم وزير الخارجية الأميركي يخاطب الأوروبيين بالقول: إنه يمكنكم الانضمام إلى معاهدات أمن المحيط الهادئ والهندي، كما صرّح الرئيس الأميركي جو بايدن أن ضمان أمن المحيطين الهادئ والهندي مهم جداً لضمان أمن العالم، ويقصد استمرار تفوق الغرب الاستعماري في نهب الشعوب، ومن المتوقع خطوة مماثلة مع الهند واليابان كي تنضم الهند واليابان أيضاً إلى هذا التحالف في وجه الصين القوة الصاعدة في العالم.
من جهته قال مفوض الاتحاد الأوروبي: إن الاتحاد سيتوصل إلى اتفاق إستراتيجي يصب في خدمة السلام وليس الحرب أو الصراع، ولا شك أن أي اتفاق أوروبي على خطوات مستقبلية سيتم تنسيقه مع الولايات المتحدة وسيتم تجاوز غضب فرنسا من الصفقة الأميركية الأسترالية لأن الجميع حريص على أن يبقى ضمن الفريق والكل يعلم أن لا قوة له ولا تأثير خارج تشكيلة هذا الفريق.
إذاً هذه هي الدرجة من الوعي التي تولّد بعدها كل الخطوات التي تضمن القوة والسؤدد والتفوّق للجميع، وهذه هي الدرجة من الوعي التي لم تتجذّر في أذهان العرب بمختلف اختصاصاتهم ومراحلهم.
إن الإستراتيجية الأساسية التي قام عليها العدو الصهيوني والتي وضعها نصب أعينه والتي شكلت الأساس الأهم لكل أدبياته هي بث الفرقة والفتنة بين صفوف العرب، وإلى حدّ اليوم لم ينتج العرب جميعاً إستراتيجية مقابلة ترسم خريطة طريق حقيقية وواقعية لمواجهة إستراتيجية العدو هذه وإحباطها.
من هنا تتضاعف معاناتك يا عزيزي محمود أنت وآلاف الأسرى في السجون الإسرائيلية عشرات المرات لأن المعركة معركة فكر وذكاء وتخطيط أولاً وقبل كل شيء، لأننا ونحن مئات الملايين من العرب بقينا أفراداً ولم تجمعنا المؤسسات والتيارات والأحزاب المبنية على إستراتيجيات وخطط واضحة جمعاً أكيداً لا تسمح بالاستفراد بالمقاومين والمؤمنين بأوطانهم والمنتمين لها بل تشكّل عضداً وسنداً لهم وتمدّهم بكل أسباب القوة لأنها تنهل من معين لا ينضب تغذيه الملايين بفكرها وعزيمتها ورؤاها وتصميمها على الاستمرار والانتصار.
ولا شك لدي أن مئات الأفئدة تهفو إليكم، أسرانا الأعزاء وأحباءنا، وإلى فلسطين الجريحة، بانتظار أن تسمو العقول والقلوب فوق الصغائر وتوحّد الكلمة والفعل كي لا تضطرّ ورفاقك إلى تحمّل ما تحملتموه على مدى عقود في سبيلنا جميعاً.