مع أنه وطني!
قالت له أريد هذا الدواء ولكن بشرط أن يكون أجنبي الصنع، فأجابها الصيدلاني لقد نفد الأجنبي من عندي ولدي الدواء ذاته صناعة وطنية وهو فعّال وجيد «مع أنه وطني!» وغالباً حين نذهب بوصفة طبية إلى أي صيدلي يعرض عليك الألماني والغربي والتركي قبل أن يتحدث عن الخيار الوطني باعتباره آخر وأقلّ الخيارات. وفي حادثة أخرى كانت صديقتي المغتربة تحاول أن تشتري منتجات قطنية سورية لتصطحبها معها إلى المغترب، وبصعوبة بالغة أقنعت صاحب المحل أن يعرض عليها ما لديه من صناعة وطنية لأنه بدأ يفاخر بما لديه من مصنوعات أجنبية، فقالت له: أنا قادمة من هناك، وأريد أن أشتري صناعة بلدي، في حين وعلى عكس ذلك تجد أبناء كلّ بلد يفخرون أولاً بصناعتهم الوطنية ويعتذرون إذا ما اضطروا أن يشتروا منتجاً أجنبياً له ما يقابله في الصناعة الوطنية. كلّ هذا يحدث بعد أن أثبتت الصناعة السورية ريادتها في مجالات عدّة، وعلى مدى عقود، وعلى مدى قرون، كما هي الحال في الصناعات النسيجية والملابس والموبيليا. كانت سورية تصدّر قبل الحرب الإرهابية عليها منتجاتها الغذائية والنسيجية والدوائية إلى أكثر من 83 بلداً في العالم، ناهيك عن الصناعات الأخرى التي عُرفت بها لجودتها ومنافستها في أسواق العالم. ولا شكّ أن الموقف الذي يروج له التجار لأسبابهم الخاصة من الصناعة الوطنية لا علاقة له بجودة منتجات هذه الصناعة وأهميتها على المستوى المحليّ أو الإقليمي أو الدولي، ولكنه موقف استلابي مازال سائداً منذ أيام الاستعمار من دون أن يتمّ التحرّر منه ثقافياً أو فكرياً أو مجتمعياً. والأمر ذاته ينطبق على العبث بمقدّرات أو ممتلكات الدولة وكأنها لا تعني المواطن في شيء، وهذا أيضاً ناتج عن مرحلة استعمارية بغيضة حين كان العبث بما يملكه المستعمر يعتبر فعل مقاومة؛ فقد تمّ التحرير السياسي والاستقلال من دون أن يلازمه أو يتبعه بعد ذلك التحرّر الثقافي وتعزيز الوعي المجتمعي وهذه نقطة مهمة نادراً ما يتمّ الالتفات إليها، وهي ناجمة عن ضعف إستراتيجيات وآليات تعميق ونشر الأفكار الوطنية التي تمثلنا بعمق ضمن المناهج التربوية داخل العائلة والمدرسة وأماكن العمل، وبرؤية تاريخية سليمة وهادفة. إذ هل يُعقل اليوم، وبعد الدور التركي المجرم في الحرب الإرهابية على سورية، وبعد أن أصبحت تركيا بلداً محتلاً للأراضي السورية، أن يَعرض التجار مختلف أصناف البضاعة التركية في محلاتهم، سواء أكانت تهريباً أم غير تهريب؟ هل يُعقل أن يستطيع مواطن سوري نزف دمه هو وأهله وجيرانه في هذه الحرب الإرهابية الشرسة أن يُمسك ببضاعة العدو الآثم ويتداول بها التجار في السوق، مهما كانت الأسباب والأرباح والمبرّرات؟ أوليس حقاً علينا اليوم أن نحمي دماء وتضحيات الشهداء وآلام الجرحى وآهات الأمهات الثكلى من خلال تعزيز قيم التضحية والفداء ومن خلال صبّ جام غضبنا الوطني الجمعي والشخصي على كلّ من استهدف سورية وأهلها وبناها التحتية؟ لماذا يقول السيد الرئيس بشار الأسد اليوم لا دور للدول التي استهدفتنا في إعادة إعمار سورية؟ لأنه لا يجوز أن تتمّ مكافأة المعتدي على جرائمه الإرهابية بإفساح المجال أمامه كي يجني أرباحاً على حساب دماء الشهداء وآلام الجرحى، المطلوب هو مقاومة أي تسلل لأي بضاعة قادمة من بلد عدو آثم استهدف أبناءنا وأمننا ومستقبل أجيالنا، وهذا لا يحتاج إلى قانون ولا إلى قرار حكومي ولا إلى مراقبة، ولكنه يحتاج فقط إلى حسّ وطنيّ سليم لدى التجار والمواطنين على حد سواء، وتصرّف بمسؤولية ومحبة تجاه كلّ من ضحى بدمائه كي نبقى نحن وكي تبقى سورية. ومن جهة أخرى نمتلك كلّ أسباب الفخر والاعتزاز بكلّ ما هو وطني، وبكلّ القيم الوطنية التي نُسجت في شغاف قلوبنا، ولا يحتاج الأمر إلا إلى مقارنة بسيطة بين ثقافة الموت والعدوان والقتل والخطف والتكفير وتمزيق الصفوف التي نشروها على مدى ثماني سنوات عجاف، وبين ثقافة الحياة والعيش المشترك والخلق والإبداع التي بدأت تحلّ محلّ ثقافتهم المظلمة. انظروا إلى ذلك النفق في جوبر، الذي كان مصدراً للقذائف التي كان الإرهابيون يقصفون بها سكان دمشق والتي حرمت الأمهات من أطفالهن الوحيدين، وصبايا بعمر الورد من أرجلهنّ وأيديهنّ، انظروا إلى ماذا تحوّل بعد أن تمّ دحر الإرهابيين؛ لقد تحوّل إلى متحف للفنّ صنعه فنانون سوريون نفخر بهم، وافتتحه السيد الرئيس والسيدة أسماء. هذه هي ثقافة الحياة مقابل ثقافة الموت التي حاولوا أن ينشروها على أرضنا الطيبة الطاهرة، وفشلوا في ذلك كما أخفق المعتدون والطامعون من قبلهم عبر القرون.
وهذا الجوهر ذاته الذي قصده سيّد المقاومة، السيد حسن نصر الله، حين تحدّث في ذكرى انتصار المقاومة منذ أيام وقال لقد انتصرنا وهُزم مشروع الأعداء، واليوم يحاولون أن يوهموا ضعاف العقول أنهم قادرون على إملاء شروطهم مع أنهم هم المنهزمون. وأورد أمثلة منطقية ومقنعة لتحولات إقليمية ودولية تشهد على أننا نحن المنتصرون، وعلى أن الواقع قد تغيّر بشكل جذري لمصلحتنا، ولكن ضعاف النفوس، والذين لا ثقة لهم بما هو «وطني» مازالوا يسيرون في ركب أوهام من يستهدفهم. وهنا من الصعوبة بمكان الفصل بين الموقف من الصناعة والسياسة والمجتمع لأن المنطلق واحد والشعور بالكرامة الوطنية لا يتجزأ؛ فإما أن يكون في كلّ تفصيل ومفصل، وإما ألا يكون على الإطلاق، وحين ذلك تكون الهزيمة الكبرى. لقد حاولوا تدمير هويتنا وموروثنا ومنتجنا الوطني من خلال حرب إرهابية شاملة استهدفوا فيها مصانعنا ومعاملنا ومراكز أبحاثنا بالتخريب والنهب والقصف، وحين هزموا شرّ هزيمة لم يتوقّعوها يحاولون اليوم الدخول من أبواب مختلفة، منها الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والثقافي باستخدام ضعاف النفوس والانتهازيين وتجار الحروب من المهربين والمرتشين. وبعد هذه الانتصارات التي فاجأت الأعداء وأثلجت صدور الأصدقاء، لا بدّ من البناء عليها وتعزيز ثقافة وطنية تفخر بكلّ منتج وطني وتأبى على نفسها التمجيد بالأجنبيّ أو السير في ركابه، لأن منتجاتنا الوطنية متجذرة بقيم أثبتت جدارتها وأنها تستحق الحياة العزيزة الكريمة. متى سأسمع كلّ من تبحث عن أي منتج تسأل أولاً وقبل كلّ شيء عن المنتج الوطني، وتفخر به وتعمل على تحسينه وتعديله، ومتى نقرأ في مختلف الاختصاصات من مناهج التربية والتعليم إلى البرامج الإعلامية السمعية والبصرية ما يعزّز السير في النهج المقاوم والبناء على تضحيات الشهداء والجرحى بعيداً عن الكذب الإعلامي المعادي والتهويل من قبل الأعداء الذين استهدفوا وجودنا، وحين فشلوا يحاولون استهداف ثقافة الحياة والانتماء والاعتزاز بحقّنا في أرضنا وتاريخنا ومستقبل أجيالنا. لقد شارفت المعارك الميدانية على الانتهاء، ولكن المعارك الفكرية والثقافية والمجتمعية بدأت الآن، وعلينا حماية منتج وثقافة الأوطان بكلّ ما تحمل من غنى وألق وتاريخ حضاري مشرّف.