في مقابلة عضو المجلس السياسي الأعلى في اليمن، محمد علي الحوثي، مع مذيعة في هيئة الإذاعة البريطانية، قدّم السيد الحوثي للغرب والشرق درساً في الإعلام والأخلاق، وأظهر تفوّقاً معرفياً ووجدانياً وتاريخياً على هيئة إذاعة ادّعت أنها الأعرق والأقدر على إيصال المعلومات. كانت أجوبة السيد الحوثي تُظهر فرقاً شاسعاً بين مذيعة سطحية منفعلة عنصرية لا تعرف قيمة وأهمية ما تُثيره من مكنونات ثقافتها الاستعمارية، وبين صاحب شأن وقضية تماهى معها فكراً وروحاً وأداءً. لم تخجلْ المذيعة أن تعتبر نفسها ممثلة للاحتلال الإسرائيلي بكلّ إجرامه وإبادته للمدنيين من أطفال ونساء حين قالت “إنّ ما يجري في البحر الأحمر لم يؤثر على الاحتلال الإسرائيلي من أجل وقف الحرب على غزّة”، فأجابها الحوثي وبكلّ بسالة: “إذا لم يؤثّر عليهم، إذاً لماذا شكّلوا تحالفاً دولياً”، وجواباً على سؤال المذيعة بشأن علاقة الحوثيين بفلسطين، وهم يبعدون أميالاً عمّا يجري في قطاع غزّة، قال الحوثي: “يعني بايدن ونتنياهو يسكنان في شقة واحدة؟!، والرئيس الفرنسي يسكن في نفس الطابق؟، والرئيس البريطاني يسكن في نفس العمارة؟ أم أنّ بينهم وبين إسرائيل آلاف الأميال؟”.
في هذه الأجوبة الذكية والنافذة تعرية واضحة للمنطق الاستعماري المتعالي الذي يستخدمه الغرب ضدّ العرب والشرق والإقليم دون أن يتوقع تطبيق المعادلة ذاتها عليه. ولو أنّ المتحدثين يحاولون أن يحاكموا نظراءهم الغربيين بذات المعايير التي يطرحونها عليهم لأحدثوا فرقاً هائلاً في المقاربة. نقطة الانطلاق يجب أن تكون جهل الغرب، واعتماده على سياسات عنصرية بغيضة، وعلى تاريخ استشراقي لا يمتّ لواقعنا بصلة. والنقطة الثانية هي دحض الأوهام التي زرعها الغرب في عقول سكّان الأرض بأنّ إعلامه موضوعيّ وحياديّ وأنه قويّ وحضاريّ، وقد برهنت السنوات الأخيرة، وخاصة ردود فعل الغرب؛ حكومات وإعلام وكونغرس وبرلمانات على أبشع إبادة في التاريخ الجارية الآن في غزّة على أنه غرب عنصريّ موتور مهزوم وسطحيّ ولا يقيم للقيم والأخلاق وحياة البشر من غير الغربيين وزناً على الإطلاق.
مذيعة بريطانية أخرى كانت تهذي وهي من المفترض أنها تجري مقابلة سياسية مع الأستاذ مصطفى البرغوثي، فتحوّلت إلى ابنة شارع تردح بجهل عن افتراضات استشراقية مغلوطة، نهلتها من تربية عنصرية مقيتة معادية للعرب فجمعت بين الجهل المعيب، وقلة الأدب المخجلة حين اتهمت الأستاذ البرغوثي بأنه لا يريد أن يتكلم إليها لأنها امرأة، وألمحت إلى أنّ العرب لا يحترمون المرأة ولا يقدّرونها ولا يتكلّمون معها، لقد حملت في طيّات كلماتها جهلاً مُخجلاً بالعرب وتاريخهم، وانحيازاً مُخزياً لاستشراق بغيض ألّف جملة من الأكاذيب عن العرب ومازال الغرب وكلّ من فيه يجترّون هذه الأكاذيب على مدى قرون دون أن يتوقّف أحد منهم ليستكشف كذب وتضليل هذا الاستشراق. لهذه المذيعة أقول: إنّ امرأة عربية حكمت مملكة تدمر منذ ثلاثة آلاف عام، وإنّ المرأة العربية بدأت النوادي الأدبية منذ آلاف السنين، وفي التاريخ الحديث كان لدى النساء العربيات أكثر من عشرين ألف مجلّة تُؤلف وتُطبع وتُوزّع من قبل النساء قبل الحرب العالمية الأولى، حين كانت نساء أوروبا في ظلام عميق. المرأة العربية لها تاريخ من الحضارة والرّقيّ والأخلاق، والرجل العربي سندٌ للمرأة العربية وفخورٌ بها، فلا تحاولي أن تفرضي جهلك وعنصريتك البغيضة على مشاهديك. إنّه لمخجل بالفعل أن تكون مذيعة بهذه الضحالة وبهذه التفاهة وبهذا الموقف العنصريّ البغيض من مقاومٍ ومناضلٍ محترم، لقد بدا الفرق واضحاً بين فتاة سوقية وبين مناضل أخلاقي يحترم ذاته، ولا يرفع صوته مع أنها تصرّفت بقمّة قلّة الأدب معه، وهذا بحدّ ذاته يُري الفرق الحضاري بيننا وبينهم. هذا هو الغرب ذاته الذي أوقف البرنامج المشهور للشاب الموهوب مهدي حسن، وأوقف عمله مع ثلاثة من المقدمين المسلمين لأنهم تجرّؤوا على قول الحقيقة، وهذا الغرب هو الذي لم يكتفِ بإقالة رئيسة جامعة هارفارد التي يتغنى الغرب كلّه بأهميتها ولكنه لاحق الرئيسة بأنها لا تستحقّ أصلاً أن تكون رئيسة جامعة وأنها تبوّأت هذا الموقع فقط لأنها ذات سحنة سوداء ومن أجل التعبير عن التعدّدية في المجتمع الأمريكي.
الخلاصة الواضحة والأكيدة من مئات الأمثلة المشابهة والتي فجّرتها حرب الإبادة الصهيونية على غزّة هو أنّ مقولة الإعلام الحِرّ في الغرب سقطت سقوطاً مدوّياً، وأنّ جهل الغرب بواقع الحال مخزٍ، وأنّ ما يدّعونه غالباً من تفوّق معرفي وأخلاقي هو مجرّد دعاية رخيصة لإقناع الآخرين بالتبعية لهم، كلّ ذلك يعني أننا وصلنا الحدّ الفاصل الذي لا يجوز معه بعد اليوم أيّ مجاملة أو تردّد أو موقف رمادي. لا بدّ للمواقف أن تكون واضحة، فلا جدوى من الظهور في الإعلام الغربيّ، ولا ضرورة أبداً أن نشرح قضايانا على وسائل إعلامهم لأنّ هدفهم الوحيد هو استخدام من يظهر معهم لتبرير وجهات نظرهم وليس لاستكشاف أية حقائق أو إجراء حوار جدّي يلقي الضوء على معلومات جديدة أو مفيدة. حريٌّ بنا، بالإضافة إلى مقاطعة المنتجات الغربية ومقاطعة الجلوس في المقاهي التي تساند العدوّ الإسرائيلي، أن نقاطع الإعلام الغربي مقاطعة كاملة؛ إذ لا جدوى من الحديث إليهم خاصة وأنهم لا يمتلكون لياقة الحديث أو لياقة النقاش أو لياقة احترام الآخر. ومن ناحية أخرى لن يؤثّر هذا الكلام في شيء لأنهم مأدلجون على عنصرية مقيتة لا تقيم لشعبنا ولا لحياتنا ولا لأرضنا ولا لمستقبلنا وزناً. وقد تكون هذه إحدى الخلاصات الكثيرة الجمّة التي سوف يتوصّل إليها العالم في السنوات المقبلة نتيجة حرب الإبادة الوحشية التي يشنّها الغرب حالياً ضدّ المدنيين العُزّل في عزّة بهدف استعمار أرضها وجلب الغربيين لاستيطانها. فحرب الإبادة ضدّ الفلسطينيين، وهذا التطهير العرقي الصهيوني الآثم للشعب الفلسطيني لن يكون ذا نتائج عسكرية أو سياسية وحسب، وإنما سيكون ذا نتائج تاريخية وحضارية ومجتمعية، وسوف تصل ارتداداته إلى العالم برمّته. كما أنّ جنوب أفريقيا رفعت شعاراً منذ عهد المناضل العالمي نيلسون مانديلا أنه لا يمكن لجنوب أفريقيا أن تكون حرّة إلى أن تصبح فلسطين حرّة، وإنّ حرية جنوب أفريقيا لن تكون مكتملة دون حرية الشعب الفلسطيني. فإنّ العالم اليوم لا يمكن أن يكون حرّاً إلّا أن تكون فلسطين حرّة، والإنسان اليوم، حيثما كان ومهما كان موقعه، لا يمكن أن يكون حرّاً إذا لم يتخذ موقفاً واضحاً ومؤيداً لحقّ الشعب الفلسطيني في الحياة والحرية والكرامة. إنّ ما تقوم به جنوب أفريقيا اليوم من رفع دعوى إبادة جماعية في محكمة العدل الدولية ضدّ الصهاينة المجرمين هو أوّل الغيث، وإنّ محاكم كثيرة في العالم سوف تنشأ وتُدين الصهاينة المجرمين وكلّ من وقف معهم أو أيّدهم أو مارس الصمت عن جرائمهم وإبادتهم وتطهيرهم العرقي.
جرائم بهذا الحجم لا تنتهي آثارها مع دفن الشهداء بل ستبقى تتفاعل في ضمائر البشر إلى أن تغيّر الواقع الذي سمح بارتكابها، وإلى أن تتعزّز المسيرة الإنسانية لخلق روادع في وجه المجرمين، وكل من تسوّل له نفسه الاستهانة بحياة البشر، أو مدّ يد العون للقَتَلة والمجرمين كما يفعل الغرب اليوم. ينطبق على الصهاينة فيما ارتكبوه من جرائم قول الله عزّ وجلّ: “فسَوَّلتْ له نفسُه قتْلَ أخيه فَقَتَلَه فكان من الخاسرين”. أي أنّ القاتل هو الخاسر وليس الشهيد المقتول ظلماً، وأوجه الخسارة هذه سوف تتضح وتتفاعل بأشكال وطرائق وارتدادات ونتائج مهيبة خلال الأشهر والسنوات القادمة، وستُثبت أنّ القَتَلَة هم الذين سوف يدفعون ثمناً باهظاً لما ارتكبوه من جرائم وليس الشهداء المظلومين الذين سوف يكونون في أعلى عليين مع الأنبياء والصّديقين والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً.
إنّ الدماء الطاهرة، دماء الأطفال والنساء والجرحى والنازحين والكوادر الطبية والإعلامية، التي نذرت نفسها لخدمة أخواتها في الإنسانية سوف تشعل أنوار دروب التخلّص من الهيمنة الغربية، وسوف تسرّع من ولادة عالم متعدّد الأقطاب، قائم على الأساس الإنساني الرائد الذي طرحه الرئيس الصيني شي جين بينغ، وهو “بناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية الذي يتمثّل في التنمية المشتركة والأمن والأمان الدائمين، والاستفادة المتبادلة بين الحضارات، ورفض جميع التصرّفات من سياسة القوّة والتنمّر، وتأسيس التعدّدية القطبية المتّسمة بالالتزام بالمساواة بين جميع الدول بغضّ النظر عن حجمها ورفض الهيمنة وسياسة القوّة وتعزيز ديمقراطية العلاقات الدولية بخطوات ملموسة”.
إنّ الغضب الذي يتمثّل في نفوس آلاف الملايين من البشر في كلّ القارات من سفك الصهاينة بدم عنصريّ بارد كل هذه الدماء الطاهرة في فلسطين، والاصطفاف الغربيّ الأعمى والمخزي إلى جانب القَتَلة، وعجز المنظومة الدولية عن فعل إجراء ملموس يوقف القتل والدمار سوف يجد طريقه وسوف تتمّ ترجمته إلى إجراءات ملموسة وواضحة وبنّاءة بعد أن انكشفت الحقائق بوضوح ما بعده وضوح، وسوف تستمرّ صرخات الأطفال ونداءات المرضى والجوعى في غزّة وفلسطين بصمّ آذان أجيال قادمة تتحرّك قُدماً لتحقيق الحرّية والكرامة ليس لفلسطين فقط، وإنما للنفس البشرة في كلّ مكان. فلسطين سوف تكون منارة لتحرير الإرادة الإنسانية من ربقة الاستعمار والوحشية والجهل والاستشراق الغربيّ، وسيكون الداعمون للحقّ والعدل في فلسطين هم أصحاب الحظّ الكبير لأنهم سوف يكونوا منارة التغيير الجريء والشريف، والذي لا شكّ أنه قادم لأنّ مؤشّراته أصبحت واضحة تماماً في الأفق؛ فمن يقف مع فلسطين يقف مع نفسه ومع إنسانية الإنسان، ومن يدافع عن الأقصى وكنيسة القيامة يُدافع عن نفسه وعن القيم الإنسانية النبيلة، ولن تُفيد حينئذ السّرديات الغربية المنافقة الجاهلة، والتي بدأت تتساقط كأوراق خريف صفراء. إذا كان الصهاينة اليوم يتلقّون جزءاً من ثمن دعمهم لنظام الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا منذ ثلاثين عاماً فهم لا يعلمون ما ينتظرهم من كلّ البشر الأحرار على سطح هذا الكوكب في السنوات والعقود القادمة.