شكّل «حارس القدس» علامة فارقة جداً في هذا الموسم الرّمضاني، وزاد من أهميته أنه عُرض بالتزامن مع مسلسلات الاستلاب والهوان، وعلَّ أهمَّ ما في الأمر أنه قدّم أنموذجاً يُحتذى للعمل الدرامي الذي يجب أن يركّز على سِيَر المناضلين الشرفاء الذين عانوا ما عانوه، وقضوا في سبيل أوطانهم وأمتهم، والبعض منهم مازال في سجون الاحتلال يعاني ما يعانيه من دون أن يسمع صوتاً يشدّ من أزره، أو تُتاح له الفرصة أن يبوح بيوميات عذاب وصبر وأمل وثقة أن الشعلة لن تنطفئ.
لا شكّ أنّ هناك مئات القصص المشابهة لقصة «حارس القدس»، التي لم يتمّ تسليط الضوء عليها في الحياة أو بعد الممات، بينما تنشغل معظم الشاشات العربية بشراء البرامج الأجنبية، التي لا تمتّ إلى واقعنا أو قضايانا أو مستقبل أجيالنا بصلة.
لقد كشف لنا «حارس القدس» أمراً في غاية الأهمية، وهو أنّ الجمهور جاهز لتقبّل الأعمال التي تلامس قضاياه، وأنّ الهرب إلى برامج ومسرحيات لا تمتّ إلى واقعه بصلة ليس خياره، وعلى الأغلب ليس ما يفضّله أبداً، بل على العكس من ذلك، فإنّ المشاهد يحقّق المتعة، ويراكم الوعي حين يتابع عملاً يلامس ضميره وقضاياه ويكتسب منه العزيمة والثقة بمستقبل أفضل.
لقد كان عرض حياة المطران كابوتشي في شهر رمضان ذا دلالة رائعة بأنّ الإيمان هو بالله الواحد الأحد، ربّ العالمين، وأنّ الانتماء هو لكلّ من عاش على هذه الأرض وعشق ترابها، وأنّ المؤمن الحقيقي لا يفرّق بين أتباع الأديان، وبين ما أنزل من الرسل، كما أنه لا يفرّق بين عواصم ومدن هذه البقعة الطيبة التي ننتمي إليها جميعاً. ولكنّ الغصّة تلازم الحريصين على عمل أكبر وأهمّ، وعلى تحويل المعاناة الفردية إلى قضية جماعية يدافع عنها الجميع، ويستبسل في سبيلها كثيرون. المشكلة في هذه التضحيات القيّمة والثمينة والشريفة هي أنها بقيت تضحيات فردية، ولم يتمكّن العرب من تحويلها إلى حركات مجتمعية وسياسية تقضّ مضاجع الأعداء، وتغيّر موازين القوى مرةً وإلى الأبد. والتاريخ العربي حافل بالتضحيات الفردية المشرّفة، وأحياناً بالمعارك التي لقّنت الأعداء درساً لن ينسوه، ولكنّ مسار العمل ومنهجية التفكير لم تضمن استمرارية مثل هذه الأعمال أو تعميم أنموذجها لتصبح ظواهر يُحسب لها حساب. وأنا أشاهد «حارس القدس» يتعرّض لأنواع التعذيب والإذلال في غياهب سجون الاحتلال أستذكر أسرى سجن الخيام وعذاباتهم على يد جلاديهم، وأستذكر عذابات الأسرى العراقيين في سجون الاحتلال الأميركي في أبو غريب وغيره، وأستذكر الأسرى العرب الذين مازالوا يقبعون اليوم في سجون الاحتلال دون أن يكون هناك عمل إقليمي ودولي يفضح أساليب الاحتلال ويرغمه على إطلاق سراح هؤلاء الشرفاء.
إنّ الرسالة الأكيدة التي استخلصناها من هذا العمل المهم والقيّم هي أنّ الحركة الدرامية ومسؤولي قطاع الإنتاج الدرامي يجب أن يعكفوا، ومن اليوم، للإعداد لشهر رمضان القادم، ولتقديم أعمال وثائقية تعزّز الشعور بالانتماء، وتقارع المطبّلين للتطبيع، وتمجّد قيم التضحية والفداء والمقاومة، كما أنّ القيّمين على مصادر التمويل لمثل هذه الدوائر يتحمّلون مسؤولية اختيار النصوص التي تجذّر ثقافة المقاومة، وتنصف الأبطال المخلصين الذين ضحّوا بأنفسهم، يملؤهم الشعور بالإيمان أن الشعلة التي حملوها لن تنطفئ، وأن القادمين كثر للاستمرار على دربهم في التضحية، إلى أن تعاد الحقوق لأصحابها الشرعيين.
كما أنّ الرسالة الثانية التي نستنتجها من «حارس القدس» هي أنّ مثل هذه الأعمال والسير الذاتية يجب أن تكون ضمن المناهج المدرسية وفي مختلف المواد التعليمية؛ فنحن لم نتعلّم الانتماء من كتب التاريخ فقط، بل من حصص الشعر والنثر والثقافة والجغرافيا والتربية، إذ إنّ الانتماء هو حصيلة كلّ ما نتعلمه من إبداعات الآخرين المنتمين والمؤمنين بأوطانهم ومستقبل هذه الأوطان.
والرسالة الثالثة والمهمة هي أنه ليس من الصحيح ما يشيعونه بأنّ هذا الجيل مسطح، وأنه غير مهتمّ بقضايا أمته، وأنه جيل النت كما يسمونه، بل الصحيح هو أننا لا نقدّم له المادة التي تساعده على أن يكون أكثر انتماءً وتجذّراً واهتماماً بقضاياه واستعداداً للتضحية من أجلها. فالنظام التعليمي في معظم بلداننا العربية بحاجة إلى مراجعة شاملة ومعمّقة لاستعادة بناء الجيل على أسس علمية ووطنية تمكّنه من مواجهة التحدّيات الجسام التي تميّز هذه المرحلة التاريخية، فالأنظمة التعليمية هي أساس بناء الإنسان، والأعمال الثقافية بكلّ أنواعها متمّمة لهذا البناء ومرسّخة له، وخاصة إذا ما ركّزت في جوهرها على الأشخاص والأعمال والتضحيات التي تشكّل قدوة وأسوة للأجيال الصاعدة.
لقد عمدت الدوائر الصهيونية، وعلى مدى عقود، على تشويه صورة الأدب الملتزم والفنّ الملتزم، وصدرت عشرات الأبحاث لتبرهن أنّ الالتزام ينتقص من القيمة الأدبية والفنية للأعمال، ولكننا وبعد كلّ ما خضناه في دوائر المعرفة، ندرك اليوم أنّ الالتزام بالنسبة لأيّ عمل هو بمنزلة الروح من الجسد، فماذا يعني أن يكون الكاتب أو الفنان مسطحاً لا قضية له؟ وكم الفرق وفي أي مجال في الحياة بين صاحب قضية، ومن لا قضية ولا انتماء له؟ كما روّجت الدوائر المعادية لقضايانا، وعلى مدى عقود، أيضاً أنّ الكاتب يجب ألّا يركّز على المحليّة إذا ما أراد أن يكون عالمياً، ووزّعت الجوائز الأدبية القيمة على من تخلّوا عن لغتهم في الكتابة، وعن قضاياهم في مواضيع أعمالهم، سواء أكانت أدبية أم فنية، وسمّتهم العالميين، وتجاهلت بشكل مطلق الكتّاب المنتمين، الذين قضوا سنوات في تقليب أوجه قضاياهم بما يخدم هذه القضايا. ولكننا اليوم نعلم أنّ معظم مبدعي الأرض قد توصّلوا إلى الاستنتاج الأكيد بأنّ المحلية هي المنطلق الأكيد للعالمية، وأنّ من لا يفهم واقعه المباشر لا يمكن له أن يفهم العالم، وأنّ من لا يعبّر عن انتماءٍ للغته وأهله وفصيلته فلن يكون قادراً على التعبير عن الانتماء الإنساني الحقيقي.
ما أكّده حارس القدس لنا جميعاً هو أنّ إرادة الإنسان أقوى من كلّ قوى الشرّ في العالم، وأنه حتى الأعداء لا يمكن لهم إلا أن يحترموا الملتزم بقضاياه، والمستعدّ للتضحية من أجلها، ولكنني أشعر بالحسرة كلّما تكلّمت عن التضحية، فالتضحيات يجب أن تكون مدروسة، وألّا تكون فقط من الفقراء والمظلومين، وألّا نعتمد فقط على هؤلاء المستعدّين للموت من أجل القضية، ولا أن نسمح لهم بالموت، بل نمكّنهم من النضال والعمل الجماعي المجدي من أجل انتصار القضية.
أشعر بالغصّة لأني أرى أنّ التضحيات الجسام لا تقابلها إجراءات ضرورية على مستوى القيادات، وكبر وترفع والتزام بآليات العمل الأساسية والضرورية التي توصل النضال إلى النهايات المطلوبة. صحيح أنّنا نقدّس الشهادة، ونحيي ذكر شهدائنا ونعلم أنهم مع النبيين والصديقين، ولكن هناك واجبات كبرى لا بدّ من القيام بها على المستويات القيادية والسياسية، قبل أن تكون الشهادة هي الأسلوب الوحيد الذي يُبقي القضية حيّة في أذهان الناس، دون أن تتمكن هذه الشهادة من أن تقدّم الخدمة المطلوبة أو تدفع بالحقّ خطوة واحدة على طريق انتصاره؛ أي إن ارتكاز القيادات على استعداد الشرفاء والبسطاء والمظلومين للتضحية بحياتهم في أيّ مفصل من مفاصل المعركة ليس مجدياً وليس سليماً، بل على القيادات أن تقوم بواجبها من التفاني وتوحيد الصفوف والترفّع عن الصغائر والقيام بالعمل النضالي السليم بعيداً عن أيّ منفعة شخصية، قبل أن تعوّل على تضحيات هؤلاء وبذلهم الدماء في سبيل استمرار إضاءة الشعلة.
لقد كانت القدس هي البوصلة التي حرست «حارس القدس»، فاهتدى بها إلى منظومة قيم أخلاقية ودينية ووطنية رفيعة المستوى زادت من نور إيمانه ومن عطر محبته للإنسانية ومن تفوّقه في الصدق والإخلاص فأصبح أنموذجاً لمعتنقي جميع الديانات ولساكني كلّ رقعة من الأرض وللمحبين للخير والعمل الإنساني الصادق. لقد تجلّى كهنوته في صوفية وطنية عزّ نظيرها، وهذا بالذات ما يفعله الالتزام سواء أكان دينياً أم فنياً أو أدبياً أو وطنياً أو إنسانياً. صحيح أنه خدم قضية القدس كما لم يخدمها أحد، ولكن القدس أيضاً ارتقت بروحه إلى مواقع عليا، وكان لالتزامه هذا أكبر الأثر الطيب المتبادل عليه وعلى القدس وعلى قضية فلسطين المقدّسة وقضية العرب جميعاً.
لقد برهن هذا العمل أنّ الممكن كبير ومتاح، وأنّ الجهد المبذول سابقاً لم يفِ مواضيعنا حقّها، وأنّ الاهتمام بما يزخر به تاريخنا من كنوز هو المقدمة السليمة التي لا بدّ منها لصناعة تاريخ يحاكي ما صنعه موضوع العمل هذا، وما يمكن أن يقدّم من أعمال مماثلة. فليكنْ «حارس القدس» الشمعة التي أضاءت الطريق للجميع حول كنه الأعمال وجدواها، وليبقى أنموذجاً للإيمان الصادق والانتماء والعيش الإنساني المشترك، وبرهاناً على أن الثقافة تتم صناعتها بالتعليم والتثقيف والأعمال، والأمر يعتمد علينا؛ أيُّ ثقافة نريد أن نعزّز ونرسّخ، وأيُّ لغة نريد أن نبجّل، وأيُّ قضية نريد أن نخدم ونضحّي في سبيلها؟.