ميشيل إده: صاحب قضية
حين زرته في منزله على فطور بيروتي شعرت أنني أمام قامة عربية مسكونة بآلام وآمال الأمة، ومبحرة في شبكة قضاياها المعقدة ببصيرة وبوصلة لا تخطئ الهدف.
لم يأتِ على ذكر المواقع والمناصب والمسؤوليات التي أُوكلت إليه أو التي تمّ ترشيحه لتسلمها، فقد كان همّه الأساس كيفية مواجهة العدوّ الصهيوني، والتركيز أولاً على معرفته ومعرفة فكره وخططه التي يعدّها ضدنا.
فقد كان يمتلك مكتبة عامرة منطلقها الأساس هو “اعرف عدوك”، وقال لي أنا أقرأ هآرتس كلّ صباح وأقرأ فكرهم وثقافتهم وخططهم؛ إذ كيف يمكن لكِ أن تواجهي عدواً تجهلينه؟ وذكر على سبيل المثال، أننا رغم إدراكنا بأن الصراع العربي الصهيوني هو جوهر ما يعصف بمنطقتنا بأشكال مختلفة، فنحن لم نركّز على إنشاء مراكز أبحاث متخصصة في دراسة هذا العدو ومقارعة الفكر بالفكر والحجة بالحجة. في الواقع، شعرت وأنا أودّعه، أنني أودع شخصاً يعتبر أن الله قد استودعه قضية كبرى للدفاع عنها، وأنه أمضى عمره يشحذ الأدوات للتمكن من هذا الدفاع بأفضل السبل الممكنة… في حضرة أصحاب القضايا تتلاشى قيمة المناصب والمسؤوليات الإدارية، وحتى إذا مرّ ذكرها فمن أجل التمكّن من الدفاع عن القضية وإعلاء شأنها في أعين الآخرين وفي وجدانهم إن أمكن.
هكذا كنا نظن ونحن أطفال ويافعون، أن أصحاب المواقع هم حكماً أصحاب قضايا، وأن سبب تولّي المسؤولية في الأساس هو من أجل خدمة شأن عام أو قضية كبرى. ومع أصحاب القضية يتجلّى لك فوراً أن “إلهكم إله واحد” وأن الدين لله والوطن للجميع، لأن المعايير تركّز على الاجتهاد والإنجاز والتميّز في العمل والخدمة العامة والأثر الذي يتركه هذا العمل في الآخرين. وحين رحل ميشال إده رحمه الله نتذكره جميعاً كصاحب قضية، وهذا أهم
وأسمى من أي موقع يمكن أن يكون قد شغله، ومن أي مسؤولية يمكن أن يكون قد تصدّى لها خلال حياته الحافلة.
لعلّها مصادفة ذات مغزى شديد لدي، أنني وأنا أمسك بقلمي لأكتب عن ميشال إده رحمه الله صباح السبت الفائت قرأت خبر إطلاق سراح الزعيم العمالي البرازيلي لولا دي سيلفا، والذي زار الجمهورية العربية السورية والتقى السيد الرئيس بشار الأسد عام 2003.
وشعرت من خلال الاستماع إليه في أكثر من فرصة أنه زعيم وليس رئيساً فقط للبلاد، وأن المسؤولية التي يشعر بها تجاه العمال والشعب البرازيلي تفوق أي احتفاء بمنصب يعتليه، بل إن الهدف الأساس من تحمّل مسؤولية الرئاسة هو خدمة تلك الجماهير التي نبتَ بينها وترعرع في صفوفها، ورفع المظالم عنها وضمِنَ استخدام ثروات البلاد لتحقيق مطامحها في العيش الكريم. حين تلتقي برئيس أو مسؤول من هذا النوع مسكون بقضايا شعبه، تتمنى لو يتخذه العالم برمته أنموذجاً وأن يُسمح فقط لهؤلاء: “أصحاب القضايا” باستلام قيادة شؤون البلاد وإدارة شؤون الرعية.
ولكنّ إيداع لولا دي سيلفا السجن لسنوات واستحضار من يلبّي المصالح الأميركية في الشأن البرازيلي يُري أن الحرب الخفية قائمة على أصحاب القضايا وفي كلّ أنحاء العالم، لأن أصحاب القضايا هم الذين يحافظون على ثروات بلادهم وينهضون بشعوبهم ويستخدمون مقدراتها للإعلاء من شأنها. وقد برهنت السياسات الغربية وسياسة الولايات المتحدة على وجه الخصوص، أنّ أكثر ما يخشونه في أي بلد في العالم هو أصحاب القضايا الذين كرّسوا أنفسهم لخدمة بلدانهم وخدمة الإنسانية، والذين ليس لهم ثمن ولا يمكن إغراؤهم بكلّ مغريات الدنيا.
فها هم يحاولون إقصاء الرئيس البوليفي المنتخب إيفو موراليس عن سدّة الحكم، لأنه الرئيس الذي يحمل بوليفيا والشعب البوليفي في ضميره ووجدانه، ولأنه الرئيس الذي لم يتخلَّ عن قضيته الأساس ليصبح حاكماً، بل استخدم كلّ سلطاته لخدمة القضية التي يؤمن بها والشعب الذي يحب ويحترم. وها هي كريستينا كوشنر والتي كانت الرئيسة الفصيحة الذكية القادرة للأرجنتين تعود لخدمة بلادها، رغم محاولاتهم إقصاءها وبثّ التهم ضدها، فقط للتخلص منها كصاحبة قضية مؤمنة ببلدها وبالإنسانية. فقد كان خطابها في القمة العربية-اللاتينية التي عُقدت في قطر عام 2008 خطاباً مؤثراً، وذلك لتبنّيها التام للقضية الفلسطينية، ودعوتها للزعماء العرب وزعماء أميركا اللاتينية أن يكونوا صفاً واحداً في خدمة الشعب الفلسطيني المظلوم، وتحريره من الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي البغيض، وتحرير كل شعوبنا من وهم ادعاءات الإمبريالية ومخاطرها التي تستهدفنا جميعاً.
أحد أوجه الحرب إذاً على بلدان الوطن العربي وعلى بلدان أميركا اللاتينية، وربما على أي بلد يعمل على تعزيز قراره المستقل ويقف سداً منيعاً ضد الإمبريالية، هي حرب ضدّ أصحاب القضايا، بغض النظر عن مواقعهم في الدولة وإدارة البلاد.
وربما كان هذا ما يفسّر كل محاولات زعزعة الحياة والاستقرار مهما كان هشاً في لبنان والعراق وتشيلي، وأي مكان آخر، لأن المطلوب هو الأدوات الطيّعة للسيد الأميركي وربيبته إسرائيل. أما أصحاب القضايا سواء كانوا أشخاصاً أم حكاماً أم أحزاباً، فهم العقبة الكأداء التي تقف في طريق استباحة البلاد وتسيير العباد لخدمة المستعمر وأدواته.
وفي المحصّلة، فإن من يسكن في ضمير الناس ويستحق احترامهم على مدى الأجيال، هم أصحاب القضايا الذين يؤمنون بقضيتهم ويعملون من أجل خدمتها. رحم الله أصحاب القضايا وأعان المستمرين منهم في النضال، ولتكن سيرتهم الذاتية مدرسة تتعلم منها الأجيال المقبلة دروس تحصين البلاد وخدمة العباد وتحرير الأرض والإنسان في أي مكان وزمان.