«نحن » و «أنا»
ـ
في الوقت الذي يستدير العالم استدارات مهمة سوف تغير من صورة تاريخه في المرحلة القادمة والمستقبلية، ينشغل معظم العرب في أقطارهم المقسمة والمجزأة بمحاربة إرهاب تكفيري يهدف إلى تحطيم هوية هذه البلدان، ولهذا يقتصر دور العرب، أو يكاد، على المراقبة والتحليل ومحاولة فهم بعض الدروس المتاحة. وكي يستفيد المرء أو الدولة من الدروس المتاحة، لا بد أن يتم الاعتراف أولاً أنه بحاجة إلى هذه الدروس، أو أن وضعه يتطلب الاستفادة من هذه الدروس المتاحة. وقلّما يمتلك العرب الجرأة على الاعتراف الحقيقي والعميق بفداحة المشاكل التي يتعرضون لها في بلدانهم ولذلك تبقى المعالجات مجتزأة لأن التشخيص لا يعلن صفارة إنذار تتناسب وحجم المخاطر الحقيقية التي تتعرض لها الشعوب والبلدان. وإذا كان من الصعب، أو غير المقبول، أو غير الممكن، أن نستفيد من تجارب دول غربية أو شرقية نتيجة اتساع الهوة معها، فهل يمكن لنا اليوم أن نستفيد من تجربة جيراننا في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومن تاريخ معاناتهم واستهدافهم والطرائق التي ابتكروها لمواجهة هذا الاستهداف؟ وكيف تمكنوا من أن يستحقوا اعتراف رئيس الولايات المتحدة الأميركية أن «الإيرانيين فاوضوا بذكاء وندية»؟
«الندية» كلمة سحرية ومهمة جداً؛ وممنوع حتى الآن ممنوعة على أي بلد عربي أو شخص عربي أن يكون «نداً» للغرب. في الحقيقة إن محاولات التفتيت التي تجري في شرق الوطن العربي وغربه تهدف أولاً وقبل كل شيء أن تبقى دولنا العربية دون مستوى الندية ودون مستوى دول القرن الواحد والعشرين ودون مستوى الإنجاز والابتكار والإبداع الذي على أساسه أصلاً تُقاس أهمية الشعوب والبلدان ومساهمتها في الحضارة الإنسانية. وفي هذا الإطار علينا أن نستذكر أن الجامعات العربية من المحيط إلى الخليج كانت خارج تصنيف الجامعات، وأن هذه المساحة الجغرافية نفسها تكاد تكون خالية من مراكز أبحاث ذات مستوى مرموق على الصعيد العالمي.
من هذا المنظور فإن الاستقلال السياسي هو نتاج قدرة الدول العسكرية والاقتصادية والفكرية والبحثية. ولم يَبْقَ التعداد العالمي للسكان هو المعيار في قوة الدول وأهميتها بل إنّ دور النخب في السياسة والفكر هو الذي يعطي الدول اليوم قيمتها وتأثيرها.
ولا يمكن لي في هذه العجالة أن أغوص في أسباب تخلف العرب عن تحقيق استقلالهم الحقيقي ونديتهم ومكانتهم على المستوى الدولي. ولكن إذا أردنا أن نتعرض لإحدى مسببات نجاح إيران في معركتها الدبلوماسية مع الغرب برمته نجد أن أحد العوامل الجوهرية الذي لا يمكن إغفاله هو تضامن الشعب الإيراني وتكافله «موالاة ومعارضة» داخل إيران وخارج إيران، ووضع كل طاقاتهم ومقدراتهم في خدمة بلادهم ونصرتها للتفوق في معركتها الحاسمة هذه. وقد ظهرت قصص يجب أن تُدرس في بلداننا العربية إذ إن المعارضين جداً للثورة الإسلامية الإيرانية الذين هاجروا من إيران بعد سقوط الشاه أعلنوا، وهم يعيشون في الغرب منذ سقوط الشاه، ولاءهم لإيران ومساندتهم له في وجه الغرب. وسخر بعضهم القنوات التلفزيونية، التي كانت مسخرة لانتقاد حكومات الجمهورية الإسلامية الإيرانية، سخروا هذه القنوات، ومنذ بدء المفاوضات، لخدمة إيران في مواجهتها للغرب.
حين يخاطبك الإيرانيون، حتى في أحاديثهم العادية جداً، يقولون «نحن» ويخاطبونك بـ«أنتم» حتى لو كنت شخصاً واحداً. فقد كنت أعتبر أن هذا الأسلوب هو أسلوب مؤدب وحضاري في المخاطبة، وهو كذلك دون أدنى شك، ولكنه أكثر من ذلك بكثير كما تبين لنا من تجربتهم في التفاوض مع الغرب.
تبين اليوم أن الـ«نحن» هي في بنية العقل والتصرف الإيراني والثقافة الإيرانية الاجتماعية والسياسية، في حين إذا أردنا أن نكون واقعيين وصريحين فإننا نستنتج أن الـ«أنا» العربية أيضاً متجذرة في الذات العربية التي لا تقيم وزناً للـ«نحن»، وأن أي إنجاز يتم نسبه للفرد بدلاً من الجماعة، وأن التركيز الجمعي على المصلحة الوطنية العليا حيث يذوب الجميع في خدمتها وتجسيدها مازال بعيد المنال.
الاستثناء الوحيد في عالمنا العربي هم الشهداء والجرحى الذين يستحقون منا كل التحية والتقدير والاحترام لأنهم هم الذين وضعوا الوطن أولاً ومستقبل الوطن أولاً، حتى قبل حياتهم وصحتهم ومستقبل عوائلهم. فهل يمكن لنا أن نحذو حذوهم وأن نتخذ القرار بأن تكون ثقافتنا هي المعبرة عن مصلحة الوطن أولاً وقبل كل شيء وأن نبذل الغالي والرخيص في سبيلها؟ آنذاك فقط يمكن أن يبدأ العرب خطواتٍ ثابتة لاعتلاء مصاف العالمية ولتتم الإشارة إليهم بأنهم أنداد، بدلاً من استغلال ثرواتهم أو من استهداف حضاراتهم، كي يبقى الاحتلال الإسرائيلي مسوغاً وتبقى الحقوق العربية مهدورة والأجيال العربية هائمة في أقطاب الأرض الأربعة؟