هل تتذكرون السيناريو اليمني؟
في خضم ما سُميّ «الربيع العربي» روجت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها في المنطقة لسيناريوهات عدّة تخدم، بأصولها وفروعها، المخططات الصهيوأميركية، ومع ذلك أصبح السيناريو اليمني منذ عام ونيف هو المادة الأساسية في الإعلام العربي ومحاولات تطبيقه على دول عربية أخرى حتى قبل أن تتبين ثماره المرجوة من عواقبه على الدولة والمجتمع. ومع أن الانتخابات التي جرت في اليمن كانت في حقيقتها استفتاء لمرشح واحد، لم يكن لليمنيين القول الفصل في اختياره، فإن الدوائر الغربية قد هللّت للعملية الديمقراطية في اليمن واعتبرتها أنموذجاً لما يجب أن تتمخض عنه «الثورات العربية». ولا شك أن المخططين لهذا السيناريو لا يعنيهم الثمن الذي يدفعه اليمنيون ولا الاستنزاف لبلادهم وقواهم ولا الدمار لمؤسساتهم. ما آلت إليه الأمور في اليمن اليوم يبرهن دون أدنى شك أن السيناريو اليمني أبعد ما يكون عن مصلحة اليمنيين وعن طموحاتهم، وأن السيناريو الليبي يستهدف وحدة ليبيا ويستنزف ثرواتها وموقعها الجغرافي لمصلحة القوى الغربية الطامعة بها، وأن السيناريو السوداني هدفه تقسيم السودان واستغلال خيراته بعيداً عن مصلحة السودان وشعب السودان، والقائمة تطول. لكن السؤال الأهم اليوم هو ما الأسلوب الذي يجب أن تتبعه شعوبنا العربية كي تتمكن من وضع مصلحتها فوق كل اعتبار، وما الآلية التي تمكن هذه الشعوب من تسخير ثرواتها وإمكاناتها لمصلحة أبنائها بدلاً من استنزافها من الغزاة والطامعين؟
إنّ ما تفتقر إليه أغلب البلدان العربية اليوم هو الحياة السياسية الفاعلة والأحزاب التي تؤطر الطاقات المجتمعية ضمن الأطر السليمة والنشطة بدلاً من النكوص إلى العشيرة والقبيلة والدين والمذهب. إذ إن المساحة التي احتلتها الحركات الإسلامية والوهابية والتكفيرية على مساحة الوطن العربي كانت، بإحدى أوجهها، نتاج ترهل سياسي لأحزاب رفضت أن تنظر إلى ذاتها بالمرآة بجرأة ورفضت أن تشخص الواقع كما هو، وأن تتجرع الدواء، مهما كان مريرا، بدلاً من الرضى بالسير على طريق تعلم علم اليقين أنه لن يقود إلى العزّة والقوة بل إشاراته تنبئ عن تراجع مستمر. المشكلة في هذا السياق هي أن بعض المزاودين والانتهازيين يتهمون الأصوات الجريئة والشجاعة بالشغب، أو عدم الولاء، ولأن المنظور الوطني ليس واضحاً ومحدداً وساطعاً سطوع الشمس فإن «الوطنية» أصبحت خاضعة لتفسيرات ومزاودات ومعايير مختلفة، لا بل متناقضة، أحياناً.
إذا عدنا إلى المثل القائل « أن تصل متأخراً خير من ألا تصل على الإطلاق» فإنه من السليم أن نعترف أننا، ورغم الاستقلال الشكلي عن المستعمرين، فقد بقيت معظم البلدان العربية، والكثير من أبناء العرب، خاضعين قلباً وفكراً وعاطفة لعقدة المستعمر، وانهمكوا بتقليد أعمى لبعض الظواهر أو تبعية غير مدروسة بدلاً من إرساء أسس لبلدان مستقلة قولاً وفعلاً ورأياً وتوجهاً. وليس في هذا أي استحالة أو استعصاء فتجارب الدول التي حققت استقلالية كاملة في الشكل والمضمون متاحة وكثيرة، ودراسة هذه التجارب والبناء على ما توصل إليه الآخرون يدل على ذكاء وحكمة. ولكن لابُد من الاتفاق على شيء أساسي ومصيري وحاسم وهو أن مصلحة البلاد هي فوق كلّ اعتبار، وأن المواطنة هي القيمة العليا التي يتمتع بها جميع المواطنين، وأنّ وفاءهم لهذه المواطنة يُقاس بمقدار ما يقدمون لها فعلاً من فكرٍ وعملٍ وتضحية وليس بما يحصلون عليه منها ثم يدعون المجد والسؤدد لأنفسهم.
مع أنه لدينا الحق أن نغضب على من يستهدفنا وأن نحاربه بكلّ الوسائل الممكنة، ولكن من الحكمة أن نعترف أن آليات عمله وبحثه وتخطيطه تمكنت من أن تنال منا على مدى العقود الماضية، ولذلك فهي من وجهة نظره آليات ناجعة وتحقق الأهداف. أو ليس ممكناً أن نتقن آليات بناء الأحزاب والدول ومن ثمّ نبني أحزاباً ودولاً تُقارع الأعداء بأدواتهم وتواجه إستراتيجياتهم التي تستهدفنا بإستراتيجيات تزيد بلداننا حصانة ومنعة؟ من أجل ذلك علينا أولاً وقبل كل شيء أن نعيد الاعتبار للعلم والعلماء وللجامعات والبحث العلمي ولتحصيل المعرفة الحقّة وليس الاعتماد على من يدعيها من أجل ذلك لابُدّ أن نؤمن بالآية الكريمة « هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» لا أن نستمع لقول الذين لا يعلمون وننبهر بقدراتهم على تسويق أنفسهم في حين يجلس العلماء المتواضعون في ظلال المكان غير قادرين على إنقاذ بلدان هي أحوج ما تكون إلى علمهم وحكمتهم ونزاهتهم.