محاضراتمحاضرات في السياسة

أبعاد السياسة الأمريكيّة في الشرق الأوسط، و مخاطرها، و أفضل الطرق لحماية المصالح الوطنيّة و القوميّة – محاضرة

المكان: المكتبة الوطنية في دمشق (مكتبة الأسد) 

 24 تشرين الثاني 2005

 أودُّ بدايةً أن أشكر قيادة الجيش الفلسطيني على إتاحة هذه الفرصة لي لأكون بينكم اليوم ، و أودُّ أن أبدأ بالحديث عن أبعاد السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ما هو وضعها اليوم و كيف تغيّرت في السنوات الأخيرة.

منذُ عام 1990 وحتى عام 2000  كان الأمريكيون يتحدّثون عن دورٍ نزيهٍ  في محادثات السلام بين الإسرائيليين و العرب، و كان الاسم السائد لهذا الدور هو “الوسيط النزيه”. هل تغيّرت هذه السياسة منذ ذلك اليوم؟ و هل تغيّر أسلوب هذه السياسة؟ وهل تغيّرت أهداف هذه السياسة؟ و إذا كانت قد تغيّرت فلماذا؟

هناك الكثير مما كُتِبْ عن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، و أحد أهم ما كتب هو “الاختراق النظيف”،  و الذي يتحدث عن استراتيجية أمريكية في الشرق الأوسط  للسيطرة على المنطقة و اسمها بالإنكليزية: “Clean Break: a New Strategy for Conducting the Realm”  في هذه الورقة يتحدّث المؤلفون و من ضمنهم ريتشارد بيرل، وولفويتز و دوغلاس فيث عن أن مقولة “السلام العادل و الشامل” لم تعد قائمة، و أنّ مبدأ الأرض مقابل السلام لم يعد  مفيداً، فالمطلوب اليوم وفق هذه الدراسة هو “السلام مقابل السلام”،  و أنّ تمسّك الإسرائيليين بالأرض العربية هو هدفٌ نبيلٌ و مشروع، و أنّ العالم يجب أن يحترم الإسرائيليين لأنهم يتمسّكون بأرض أجدادهم. و تحدّثت هذه الورقة أن الهدف الاستراتيجي الأول يجب أن يكون العراق، لأن العراق يشكـّل قوة ً بشرية و مادية ربما تقع موقع القلب من العالم العربيّ! و بعد العراق يتحدّثون عن جملٍ أخرى، و إثارة الاقتتال الطائفي. و الهدف النهائي الذي تستنتجه هذه الورقة هو أن تكون إسرائيل دولةً قويةً مسيطرة و أن يعود العرب إلى قبائل و اعراق متقاتلة و متضاربة. و هذه موجودة بالانترنت و قد اعطيت عنوانها بالإنكليزية لمن يريد أن يراها.

طبعاً هذا مستوى بحثي، المستوى الآخر الذي نسمعه نحن جميعاً منذ سنوات هو ضرورة إشاعة الديمقراطية في الشرق الأوسط، و حقوق الإنسان، و الحريّة، و ضرورة تغيير الأنظمة، و الحرب على العراق أتت بناءً على حجّة واهية وهي الوجود المزعوم لاسلحة الدمار الشامل! و هنا أريد أن أسجّل نقطةً و هي أنني أريد أن أتحدث عن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على مستويين؛  المستوى الذي يتمّ التحدّث به على أنه الهدف النهائي، و المستوى الحقيقي الذي يؤسس لأشياء لم يعلن عنها و لكن هي تصبح واقعاً و واقعاً صعباً ربما يصبح من الصعب تغييره بعد فترة. و أعتقد أن ما على العرب اليوم أن يفعلوه هو أن يبحثوا عن هذا الواقع الذي يخترق هذا المستوى اللفظي أو الظاهري لكي يصلوا إلى الواقعي و لفهم هذا المستوى الواقعي بحيث يستطيعون وضع استراتيجاتهم و خططهم وفق هذا الواقع و ليس وفق ما يُقال.

حدث أمران في السنوات الأخيرة؛ الأمر الأول، هو أن مجموعة المحافظون الجدد وضعوا هذه الاستراتيجيات التي بدأت تقريباً تحرّم الحديث عن الاحتلال الإسرائيلي على المستوى الدولي. حوّلت الفلسطينيين و الإسرائيليين إلى طرفين. حوّلت الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية إلى مجرّد نزاع فلسطيني إسرائيلي، و هو ليس نزاعاً بل هو احتلال. هم يحاولون أن يسمّوه الصراع العربي الإسرائيلي و أن ضدّ هذه التسمية إنه ليس صراعاً عربياً إسرائيلياً بل إنه يوجد من يحتلُّ أرضنا و نحن أرضنا محتلة و هذا هو الواقع، أي أنها قضيّة احتلال! حتى على المستوى اللغوي حقيقة ً  تحرّكت اللغة بشكلٍ كبير لدرجة أنه إذا تحدّثت معكم الآن عن العالم العربي و عن الوطن العربي و الأمّة العربية بدل الشرق الأوسط فإنه ربما يوجد بعض الناس لم يعودوا معتادين على الوطن العربي بأقطاره المختلفة أو عن العالم العربي أو نتحدّث عن الاحتلال الإسرائيلي أو المقاومين الفلسطينيين أو الشهداء! كل هذه اللغة التي هي حقّ طبيعي للعرب بدأت تنزاح من العالم العربي لتحلّ محلها لغة ً جديدة خاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول أتت هذه اللغة ليصبح “الإرهاب” هو مركز هذه اللغة، و طبعاً مع إدانتنا الكاملة   والشاملة و العميقة للإرهاب. و بالمناسبة وقف العرب و المسلمون دائماً و  ضدّ الإرهاب في كل حياتهم، و في كلّ تاريخهم،   وفي كلّ فتوحاتهم كانوا ضدّ الإرهاب، و ضدّ التعذيب، و ضدّ المهانة للكرامة الإنسانية. ما كنتُ أقوله هو أنه بعد أحداث الحادي عشر من أيلول بدأ الخلط المتعمّد بين ما يجري في منطقتنا من احتلال و قضم يومي للأراضي، و هدم للمؤسسات، و التراث الثقافي و التاريخي، وبين ما يقوم به زمرةٌ من إرهابيين الإسلام منه براء. و بدأت مصطلحات “الإرهاب الإسلامي” و مصطلحات أخرى القصدُ منها تشويش الإنسان العربي و الإنسان في كلّ مكان لإضاعة الحقّ العربي ضمن حملةٍ مركـّزة و تستخدم آخر التقنيات و تستخدم الإعلام العالمي و اللغة بطريقة لا زلنا إلى حدٍّ بعيد غافلين عنها. إنّ إحدى أهمّ الوسائل التي اتخذتها هذه الحملة هي أولاً التعتيم على ما يجري على أرض الواقع، خاصة حين تُرتكب مجزرة أو يستشهد أطفال و انطلقت نظرية الإعلام المرافق للقوات embodied journalism. وربما رأيتم منذ يومين قتل صحفيين في العراق و في فلسطين و لم يكن سحق جسد راشيل كوري في بلدوزر إسرائيلية سوى رسالة لكلّ مناصري السلام و الفلسطينيين في العالم بأنّ  من يريد أن يأتي للوقوف مع الفلسطينيين، و مع النضال الفلسطيني ينتظره مصيرٌ رهيب. و أيضاً قتل الصحفي البريطاني توماس هيرلي و جيمس ميلر الذي كان فقط يقوم بتصوير فيلم عن أطفال فلسطين. إذاً هذه الحملة لإضاعة الحقّ العربيّ رافقتها حملة إعلامية مركّزة تعتم من جهة على ما يجري على أرض الواقع و تحاول أن تمنع ناشطي السلام و محبيّ الحريّة في العالم حتى من الوصول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة لدعم الفلسطينيين ، و تضخّ من جهةأخرى، بأقصى طاقة ممكنة، مصطلحات لربط الإسلام بالإرهاب، و لربط المقاومة بالإرهاب، و لتصوير العرب أو الفلسطينيين الذين يناضلون من أجل حقهم في الحياة و من أجل حقهم في الحريّة و من أجل حقهم في بلادهم على أنهم إرهابيون! أين تكمن المشكلة بالإضافة إلى كلّ هذا هو في أن الإعلام العربي في مجمله هو إعلام ناقل للخبر و لا يحرر الخبر أحياناً فلذلك بدأنا نقرأ في العالم العربيّ كلّ هذه المصطلحات التي قدمها لنا أعدائنا و الذين يريدون أن يجهزوا على حقوقنا. و شيئاً فشيئاً أصبحت هذه المصطلحات جزءاً من حديث و كتابة الكاتب العربي و المتحدّث العربي. أي أنه في مقابل هذه الحملة السياسية و الإعلامية على الحقّ العربي لم يكن هناك جهة مرجعية أخرى تصمم مصطلحاً آخر و تعطي العالم العربي و المؤمنين بهذا الحقّ مرجعية ً فكريةً و لغويةً و حضاريةً يستطيع العربيّ أن يتمسك بها و يتحدّث بها لأننا إلى حدّ الآن لا توجد حتى وكالة أنباء عربية تعتبر هي مصدر للخبر،  أنا حين عملت في إدارة الإعلام الخارجي صُعقت حين عرفت أنه يأتينا الخبر فنتركه كما هو، فنحن بدل أن نحاول أن نغير كلمة “قُتِلَ”  إلى كلمة “شهيد”  إلخ في الإعلام الذي يأتي إلينا.  و من الناحية اللغوية انتصرت صيغة المبني للمجهول، أي بعد هذه الحملة لم تعودوا تروا في أي جريدة في العالم أن إسرائيل قتلت طفلاً فلسطينياً، بل ترون أن طفلاً فلسطينياً قد قُتل، لم يعد هناك مبني للمعلوم لكي لا نعلم من هو الفاعل.

يوم الثلاثاء الماضي استشهد مقاومان فلسطينيان فالجريدة الإنكليزية لم تعرف ماذا تعمل و ماذا تسمي هذا الهجوم فقالت Tuesday attack  أي هجوم الثلاثاء و ذلك كي لا تقول الهجوم الإسرائيلي على الفلسطينيين. ما أقوله هو أنّ هناك خطط منهجية، لغوية، إعلامية، سياسية كاملة للإجهاد على الحقّ العربيّ و أصبح هذا جزءاً من السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط و في العالم العربيّ.

المشكلة أيضاً في أن أصواتنا في العالم هي أصوات ضعيفة، ووصولنا إلى الرأي العام العالمي هو وصول ضعيف. و أنا أقول لكم أن هناك الكثير من الأحرار في العالم الذين يريدون الحقّ و الذين يقفون مع العدالة و لكن علينا نحن أولاً كأصحاب حقّ أن نأخذ دور الريادة في هذا المجال. ضمن هذه الحملة الشعواء علينا ماذا حدث؟  تاريخنا و حضارتنا و تراثنا هو المستهدف الأول فمثلاً حين دخل الإسرائيليون إلى مدينة نابلس ماذا دمّروا؟ دمّروا قصر عبد الهادي. لماذا؟  لأنه يشكل إرثاً هاماً من التراث الفلسطيني. حين دخلت إسرائيل إلى بيروت ماذا كان الهدف الأول؟  الهدف الأول كان بيت التراث الفلسطيني.  إن ما أريد إن أقوله هو أن واقع الحملة الآن على منطقتنا يستهدف ليس فقط النفط، وإنما أيضاً يستهدف الحضارة، يستهدف التاريخ، يستهدف الهوية و يستهدف اللغة أيضاً. حتى لغتنا العربية تعاني معاناةً شديدة هذه الأيام.

أنا أتذكر أنه منذ خمس سنوات فقط بدأت المقالات تلحّ على الديمقراطية و الحرية و إلخ.  هذا لا يلغي أبداً أننا في العالم العربي و في أقطارنا العربية علينا الكثير من المستحقات كحكومات و كشعوب و علينا الكثير من العمل الذي يجب أن نقوم به لصالح شعوبنا و لأن شعوبنا و بلداننا بحاجة إلى هذا العم،ل و بالتأكيد نحن مدركون لذلك، و نحن نحاول جاهدين أن نقوم بهذا العمل، لكن التهديدات الخارجية لا تساعد بأي شيء على الإطلاق. ما هي مخاطر هذه الحملة على المصالح الوطنية و القومية؟ أنا برأيي أن هذه المخاطر هي كبيرة جداً و هي بعيدة جداً أيضاً، ليست مخاطر قليلة  و ليست مخاطر قصيرة المدى هي مخاطر بعيدة المدى أيضاً. فإذا أخذنا، سبيل المثال، السياسة الأمريكية في السنتين الأخيرتين، و ما حدث في العراق، نلاحظ أن هناك خطراً شديداً، و الآن هناك ضجة كبرى في الولايات المتحدة حول المعلومات التي تسربت و حول المعلومات التي بني عليها قرار شن الحرب على العراق. ومنذ شباط عام 2003 كان لدينا قناعة، مثل كثيرين، أن العراق لا يمكن أن يمتلك أسلحة دمار شامل بعد عشرة سنوات من المقاطعة و بعد الحصار الرهيب الذي حدث للعراق. لكن الحرب على العراق كانت مقررة سلفاً بحيث حتى هانز بليكس لم يستطع ان يحصل على ستة اشهر لاستكمال التفتيش في العراق، و الآن نعلم لماذا لم يستكمل التفتيش في العراق، لأنه لو استكمل التفتيش لما وجدوا أسلحة الدمار الشامل. إذاً الحرب على العراق كانت حرباً مقررة و أنا لا أعتقد ان النفط كان هو السبب الوحيد فكما تعرفون كان العراق هو بلدٌ عربي يتميز بخبرات و بتاريخ وبإرث حضاري هائل. ومنذ كنا في المدرسة كنا نقرأ “القاهرة تكتب، بيروت تنشر و بغداد تقرأ”. العراق لديه الإرث الثقافي الهائل، لديه حضارة ما بين النهرين. الآن أول خسارة في العراق هي الأدب و الكتابة و التاريخ و المتحف و بابل و تمثال أبو جعفر المنصور، كيف نفسّر أنه في يوم محاكمة صدّام يتم تدمير تمثال  مؤسس بغداد (تمثال أبو جعفر المنصور) و الذي أسماها مدينة السلام؟!  هل كلّ هذه الأمور تحدث عن طريق الصدفة؟!  أنا أقول أنه لا شيء من هذا يحدث عن طريق الصدفة فكل شيء موضوع و معلوم و معروف إلى أين سيكون.

أنا أتذكر عندما سمعت في الإذاعة مصطلح the Sunnis Triangle   أنني انتفضت، مع كل المشاكل التي حدثت في العراق ومع كل الواقع الذي كان لدينا تحفظات شديدة عليه في العراق فنحن لم نسمع أحداً يشير إلى العراقيين كـ سني و شيعي و كردي و آشوري.. هذا خطّ أحمر في هذه المنطقة لماذا؟  هذا لأن عالمنا العربيّ و منطقة الشرق الأوسط تتميّز بالتآلف والتناغم بين الأديان و الأعراق. هذه هي هويتنا، هذه هي ميزة هذه المنطقة التي هي مهد للديانات السماوية الثلاث. أما إذا أردنا أن نقسّم هذه المنطقة إلى ديانات و أعراق فأين نكون بالنسبة للعالم؟ هذه هي هويتنا، هذه هي حضارتنا. لذلك أنا أرى في هذا التقسيم الطائفي، و في هذه اللغة الطائفية، خطراً شديداً ليس فقط على العراق، و مستقبل العراق، و إنما على الأمة العربيّة برمتها. و منذ يومين قرأت في صحيفة أن العمليات التي تتمّ في المدن العراقية تستهدف أول ما تستهدف تهجير الأقليات إلى مدنٍ أخرى، فإذا كانت المدينة بأغلبية سنية فإن العملية تهدف إلى تهجير الشيعة إلى مدينة شيعية لكي تكون مقدمة ربما لتقسيم العراق.

ما أريد أقوله هو أنني لا أدري فيما إذا كانت هذه السياسة الأمريكية الجديدة هي واعية لكل أبعادها ونتائجها، فأنا لا أريد أن استبق أحداً، ربما ليس كل من يرسم هذه السياسة يعي نتائج هذه السياسة، ربما البعض يعي و ربما البعض لا يعي نتائج هذه السياسة. و لكني أقول أن الشعب الأمريكي لا يوافق على هذه السياسة لو علم بها كما هي، و من هنا تأتي خطورة الحملات الإعلامية للتغطية على حقيقة ما يجري من جهة و لاستبداله بمقولاتٍ أخرى لا علاقة لها بالواقع من جهة أخرى.

نحن نتحدث كثيراً عما يفعلونه و لكن يجب علينا أن نتحدّث ما يجب علينا نحن أن نفعله، كعربٍ، في وجه هذه الحملة الخطيرة. أنتم تقرؤون ما هي المخاطر التي تهدد الأماكن المقدسة في فلسطين. الجرائد الأجنبية تقول أنه بعد انسحاب شارون من غزة استولى على أراضٍ في الضفة الغربية تزيد مساحةً عن الأراضي التي انسحب منها في غزة و يبني عليها المستوطنات. و كلكم تعرفون صعوبة الوضع مع بناء جدار الفصل العنصري مع ما تعانيه القدس  ليس فقط تهجير المسلمين وإنما تهجير المسيحيين أيضاً من القدس، و هناك الآن في الولايات المتحدة حركة قوية لدعم مسيحيي الأرض المحتلة، ومسيحي القدس الذين يعانون من التهجير. و بعد ذلك حين تأتي إلى طاولة المفاوضات يقولون لك يجب أن تكون واقعياً أي بعد تغيير هذا الواقع ننتقل للاعتراف بهذا الواقع أو إلى الدعوة للاعتراف بالواقع. و الزمن هو عامل هام جداً. هذا الكلام الذي نتحدث به الآن كان أسهل لو أن العرب بقوا صوتاً واحداً مثلاً بعد مؤتمر السلام، لو أن العرب استطاعوا أن يستمروا بعد أن اتخذوا الاستراتيجية السلمية بهذه الاستراتيجية صفاً  واحداً و قولاً واحداً إلى النهاية.

إذاً خطورة هذه السياسة على المصالح الوطنية و القومية، و يجب أن نقول على الهوية العربية، هي خطورة قوية. و الحقيقة  منذ بدأت الانتفاضة الثانية المباركة قلتُ أن الفلسطينيين يقفون في خطّ الدفاع الأول عن هذه الأمة و أنا كنتُ مؤمنة  تماماً أن الطفل في فلسطين يدافع عني و عن كلّ عربيّ من المغرب إلى العراق،  و ما لم نتوصل إلى هذه القناعة الحقيقية لا يمكن لنا أن نتوصل إلى الموقف السليم. يعني ما دمنا نفكر أن هذا البلد أولاً و هذا البلد ثانياً و أني أستطيع أن احمي نفسي  فإننا لن نستطيع أن  نحمي مصلحتنا الوطنية و القومية. الطريقة الوحيدة لحماية هذه المصلحة الوطنية و القومية هي أن نفكر ببعضنا كما يفكرون بنا؛ هم يفكرون بنا كعرب، و ليس كلبناني و أردني و فلسطيني أبداً، فالهوية العربية هي المستهدفة. وأنا قلت مرةً إذا كنا نصدقهم في كل شيء فلماذا لا نصدقهم في هذه، بأننا فعلاً عرب و أننا فعلاً في قارب واحد و أن مصلحتنا فعلاً هي واحدة و مشتركة. عاجلاً أم آجلاً علينا الاعتراف بهذه الحقيقة و علينا السعي لاستنهاض الوعي بهذه الحقيقة.

ما يجري للحدود بين الدول العربية هو تماماً بعكس التيار الذي يجري في العالم. أنا كنتُ في نيويورك في مؤتمر دعاني إليه الرئيس بيل كلينتون، و مع أنهم كانوا يتحدثون بالاقتصاد  فقد كان حديثاً هاماً. قالت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس أنهم اكتشفوا أن فتح الحدود بين الدول يزيد مردود التجارة بأربع أضعاف، إذاً لماذا نحن يفرض علينا إغلاق الحدود بين دولنا العربية؟  يطلبون منا هذا بحجج مختلفة و بذرائع مختلفة لكن النتائج الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية لإغلاق الحدود و إعلاء الحدود هي نتائج خطيرة جداً. لماذا لا يستطيعون فرض هذا على جيلنا، لأننا جميعاً غنينا أننا قد عقدنا العزم أن تحيا الجزائر، و جميعاً وقفنا مع المقاومة الفلسطينية، وجميعنا قرأنا و كتبنا أدب المقاومة، و جميعنا فخورون أننا عرب. لكن الجيل الجديد، الجيل الصغير الذي لا يستطيع التجول في البلدان العربية كما فعلنا، و الذي لا يستطيع قراءة الكتاب العربي المتنقل بسرعة بين أقطار العالم العربي، كيف يمكن ان تنمو لديه هذه الروح؟ كيف يمكن أن يتخذ هذه الهوية؟  هذا هو السؤال الذي يجب أن نسأله لأن استمرار هذه الهوية و استمرار هذه الروح هو أمرٌ هامٌ جداً و إذا كنا ندرك أبعاد هذا المخطط و ابعاد هذه السياسة في منطقتنا فعلينا ان نقابل هذا الفلك الذي يصنعونه لنا بأن نصنع فلك خاص بنا لا ان ندور ضمن هذا الفلك الذي صنعوه لنا، و حتى الآن تثبت الوقائع اننا ما زلنا ندور في الفلك الذي صنعوه لنا حتى من الناحية اللغوية و الإعلامية و لا يمكن لنا أن نقاوم هذا الفلك إلا برسم الفلك الخاص بنا نحن و الذي يتناسب مع مصالحنا و الذي يتناسب مع هويتنا و الذي يتناسب مع المستقبل الذي نبغيه لأجيالنا القادمة.

قد يسأل سائل ماذا نفعل الآن و الحملة الظالمة قوية على  العرب و حتى القانون الدولي يستخدم من أجل استهداف بلدٍ عربيٍّ تلوّ الآخر، و إسرائيل تتمتع بقوة عسكرية، و العرب يومياً تتمّ الدعوة إلى تجريدهم من السلاح! و هذه قصة أخرى لأن تجريد العرب من السلاح هو جزء من هذه الحملة. لماذا يتمّ تجريد العرب من السلاح؟  هذا سؤال هام.  لماذا  يتم  تجريد العرب من السلاح و لا يتمّ تجريد الآخر منه؟ نحن أرضنا محتلة و لا نحتل أرض أحد، و الآخر يحتل أرضنا لماذا يتم تجريدنا من السلاح؟ لماذا يتُهم  المقاوم الذي يدافع عن أرضه المحتلة بأنه إرهابي بينما يأتي المحتلّ على دبابة ليقتل بها الأطفال و النساء في بيوتهم؟ هذا السؤال لا بدّ أن نسأله مهما كان العصر ظالماً. و لمن يقول ماذا نفعل في وجه هذا الواقع الصعب، وإنه واقعٌ صعبٌ حقاً، وليس لديّ أي شكّ بأن المرحلة التي نمر بها هي مرحلة صعبة، و لكنها ليست نهاية التاريخ كما قال سعد الله ونوس حين قال بأننا سوف نبقى محكومين بالأمل، و لا يمكن لما يجري أن يكون نهاية التاريخ. ماذا قال نلسون مانديلا حين وضعوه بالسجن 27 عاماً ؟ هل قال أني أعترف أن اللون الأبيض أفضل من اللون الأبيض؟ لم يقلّ هذا بل بقي مصرّاً بأنّه صاحب حقّ، و بالنتيجة أصبح ضمير العالم هو و حقـّه. إذاً نحن لا بدّ لنا من أن نصنع فلكنا كعرب، ولا بدّ من أن نضع فكرنا و استراتيجيتنا و خططنا، و أنا واثقة من أنه يوجد الملايين من يشاطروننا الإيمان بعروبتنا و بحقنا.

ماذا نفعل؟ هل نحن قادرون على مواجهة هذه السياسة في المنطقة عسكرياً؟ لا طبعاً. و ليس هذا هو المطلوب. في الحقيقة إن المطلوب الآن هو الصمود الثقافي أولاً، و الصمود اللغوي، و الصمود الإعلامي، و الصمود الأخلاقي، و أن نحاول أن نخلق مرجعيةً لكل هذا. فحين أفكر في كل ما يحدث في العراق، هل تعلمون أن أكثر من ثلاثمائة أستاذ جامعي قد قتلوا في العراق، قد استشهدوا في العراق، لماذا استهداف الأستاذ الجامعي و الطبيب و العالم و الباحث؟  إنه لكي تخسر هذه الأمة خيرة شبانها و شاباتها و تعلمون انه ليس بالسهولة يصبح الإنسان عالماً أو طبيباً أو باحثاً و لا تلد الأمة كل يوم ملايين من هؤلاء. هؤلاء هم ثروة تستطيع أن تتحرك و تقود حالما تسمح الظروف. إذاً ليس الهدف فقط إحلال الظلم الآن و إنما لإصابة الأمة بالعجز كي لا تستطيع أن تنهض بسرعة و لكي لا تستطيع أن تستخدم هذه الثروات القومية و الوطنية التي تنهض بها بسرعة. العالم العربي اليوم يعاني من حالة إحباط حقيقية لأنه حينما يقال ماذا نفعل و ماذا نستطيع أن نفعل. فهذه حالة إحباط. و بالمناسبة هذه إحدى أهم الاستراتيجيات الإسرائيلية في المنطقة، أي أن يحبطوا العرب كي يربحوا المعركة دون أن يخوضوا اية معركة.

إذا كان العرب لا يستحقون إلا هذه الصورة التي يصنعها لهم أعدائنا فماذا هذه الهجمة على هذه المنطقة؟  إذا كانت هذه المنطقة ليست ذات قيمة  و إذا كنا نحن كعرب لسنا ذي قيمة فلماذا كل هذه الهجمة علينا؟  أنا أقول لكم أن هذه الهجمة على هذه المنطقة و على العالم العربي بالنسبة لي هي دلالة على القيمة الكبرى و الغنى الحضاري و الأخلاقي و المعرفي لهذه الأمة العربية. هذا هو تقديري. نحن أصحاب حضارة و أصحاب تاريخ و أصحاب مقدّسات و لذلك هذه الهجمة علينا. و علينا أن نؤمن أنه من واجبنا أن نحمل هذه الهوية و أن نورّثها لأبنائنا و بناتنا و أن لا نسمح لأحد أن يفتك بها. و أنا أقول لكم هناك الكثيرون من الأحرار في العالم الذين يؤيدوننا، و هناك الكثيرون من الشعب الأمريكي الذين إذا عرفوا ما يحلّ بنا لا يقبلوا به، و الآن تُثار ضجّة كبرى أنه إذا كانت فعلاً أسلحة الدمار الشامل العراقية غير موجودة فلماذا شنّت الإدارة الأمريكية هذه الحرب؟  و أنا أقول علينا كعرب أن نخرج أيضاً خارج إطار أمتنا و نتعاون مع كل القوى الحرّة في العالم و هناك الكثير من القوى الحرّة في العالم التي تريد أن تدعمنا و تؤيدنا و لكنها لا تعرف كيف و من أين الطريق و من أين تبدأ و من أين تبدأ معنا.

إذاً أنا لستُ متشائمة، بل أنا متفائلة، فنحن كأصحاب حقّ و أصحاب هوية فنحن قادرون على أن نصون هذه الهوية. هذا هو التاريخ. كلّ فترة يأخذ التاريخ تحولٌّ ما ليتحوّل من مسارٍ إلى مسار. ما يحاولون فعله اليوم هو تحويل مسار الأمة العربية إلى أقطارٍ مشتتة مفتتة، إلى مذاهب و أعراق و ربما إلى حروبٍ أهلية ضمن البلد الواحد. ما علينا أن نفعله اليوم هو أن نعي أبعاد هذا المخطط و أن نحاول مجتمعين أن نضع الاستراتيجية و كما أسميتها الفلك الذي يصون حقوقنا و يصون هويتنا و يصون مستقبل أطفالنا، و نحن لا نريد سوى الحقّ و سوى العدالة. العدالة التي هي مطلب كلّ إنسان في كل مكان. حين تمّ توقيع اتفاق أوسلو أتى عضو كونغرس أمريكي معروف اسمه آلن سبيكتر إلى السيد الرئيس حافظ الأسد رحمه الله، و قال له سيادة الرئيس غداً سوف تصدر جريدة تشرين و سوف تكون صورتي و صورتك على الصفحة الأولى من جريدة تشرين، لكن إذا وقعّت اتفاقاً شبيهاً باتفاق أوسلو فإن كل صحف العالم سوف تنشر صورتك غداً. فضحك الرئيس حافظ الأسد رحمه الله و قال له أولاً لستُ مهتماً أن تنشر جرائد العالم صورتي، و ثانياً إذا أردتُ ان أوقع سلاماً فإني أريد ان أوقع سلاماً تدافع عنه الشعوب العربيّة بعد أن أمضيه. وأعتقد أن هذه هي الرؤية التي يجب أن نحملها كعرب. متى تدافع الشعوب عن السلام؟؟ تدافع الشعوب عن السلام حين يكون السلام عادلاً و حين يصون كرامة هذه الشعوب.

الأمر الآخر الذي يتعرض له العرب من أجل إحباطهم هو الإذلال. لماذا تُعصب أعين الذين يتمّ أسرهم إذا كانوا مقيدين؟؟   لماذا يتم إظهارهم بمظهرٍ غير لائق إنسانياً؟؟ إنه لكي يحبطوا العرب الآخرين و لكي يدبّوا اليأس في قلوب أطفالنا. أنا كلما رأيتُ صورة ً من هذا النوع أقول أننا لن ننكسر و أننا سوف ننتصر على هذه الهجمة الظالمة.

هل هناك مجال للتأثير على السياسة الأمريكية في المنطقة؟  قد يكون هناك مجال من خلال الرأي العام الأمريكي، لكن أولاً و قبل كل شيء لا بد للعرب من أن يشكّلوا موقفاً و صوتاً موحداً، و أن يبدؤوا بالعمل على المساحة المشتركة بينهم. علينا أن ننظر إلى أنفسنا في المرآة بجرأة و بشفافية. و التراجع عن الخطأ فضيلة. لا يوجد بلدان في العالم تتفق مع بعضها مئة بالمئة؛ نحن إما نتفق مئة بالمئة أو لا نعمل مع بعضنا. و هذا خطأ كبير نقترفه حين نفعل ذلك. علينا أن نتعوّد على أن نعمل على مساحة الأربعين بالمئة المشتركة بيننا لكي نشكـّل رأياً و صوتاً و موقفاً، و لو اتفق العرب اليوم على موقف و صوت و رأي لتغيرت المعادلة غداً تجاههم. لا بدّ أن نقود نحن البداية. هذا أمر لا بدّ منه أن نكون نحن البداية. مواجهة هذا المخطط لا يلغي على الإطلاق أن هناك الكثير من الأمور لا بدّ أن نواجهها بيننا و بين أنفسنا و في بلداننا و علينا أن نعمل من أجل ازدهار بلداننا و من أجل مصلحة شعوبنا و من أجل مستقبل شعوبنا. الكمال هو لله سبحانه و تعالى لكنّ المهم هو الإرادة، المهم هو الجرأة، المهم هو الصدق مع الذات و مع الشعب. و أنا لديّ ثقة كبرى بهذه الأمة بأنها أمة حيّة و بأنها أمةٌ لن تموت و بأنها أمة سوف تنتصر بإذن الله.

و شــــــكراً جزيــــلاً لكــــــــــم و لإصغائكـــــــم الكريــــــــم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى