محاضراتمحاضرات في السياسة

في الذكرى الرابعة لرحيل القائد الخالد حافظ الأسد – لبنان

في لبنان في الذكرى الرابعة لرحيل القائد الخالد حافظ الأسد

بعد عزف نشيدي البلدين؛ السوري و اللبناني، و بعد الوقوف دقيقة صمت إجلالاً و إكباراً لروح القائد الخالد حافظ الأسد و أرواح شهداء الأمتين العربية  و الإسلامية يبدأ المضيف حديثه بالتالي: أصحاب المعالي و ممثليهم

  أصحاب السماحة و السعادة و السيادة،

   حضرة ممثل العماد قائد الجيش،

   أيها الحفل الكريم،

أهلاً بكم في هذا الصرح الكبير، أهلاً بكم في مركز الشهيد باسل الأسد. مضى على تأسيسه أكثر من سبع سنوات و هو يذخر بالعطاء دونما مللٍ أو كلل. من النشاطات التربوية و الثقافية إلى الاجتماعية و الإعلامية و الصحية إلى دورات التدريب على الكمبيوتر و تعليم اللغات. مئات من الطلاب تخرّجوا من المركز و لكنهم لا يزالون منارةً قائمةً في هذه المنطقة من لبنان. و يعود الفضل في ذلك إلى البواعث الصادقة و الهيئة الإدارية المشرفة و التي لم تتوانى لحظةً واحدةً بالقيام بواجبها تجاه المركز. استقبل المركز عشرات الأشخاص من كبار المحاضرين و المثقفين و أصحاب الفكر، و هانحن اليوم نستقبل السيدة الدكتورة بثينة شعبان وزيرة المغتربين في القطر العربي السوري ليضاف إلى فكرنا الذاخر عملاقة من عمالقة الفكر القومي العربي. و التي ترعرعت في مدرسة القائد الخالد حافظ الأسد. هذا القائد التاريخي، إنه عظيمٌ من عظماء الأمة العربية، رجل الحرب و السلام. كانت نظرتهُ ثاقبةً يدرك المخاطر المحدقة بالأمة العربية، لا يهتز أبداً للتهديد و الوعيد. ثوابته القومية و الوطنية صامدةً كجبال قاسيون. حمل لواء القضية العربية  و قدّم في سبيلها التضحيات الجسام. لم يخضع يوماً للإملاءات و الشروط فكان موقفه الثابت و الداعم لسيادة لبنان. فسقط مشروع التقسيم و أعيد بناء المؤسسات و انتصرت المقاومة الوطنية و الإسلامية. و أجبرت إسرائيل لأولِ مرةٍ في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني على الإنسحاب من الأراضي اللبنانية دون قيدٍ أو شرط فاحتفل اللبنانيون في عيد النصر و التحرير في 25 أيار من عام 2000.

وقف القائد الخالد في وجه إسرائيل وقوف القائد الأشمّ الذي منع أن تُستلَب منطقتنا و أن تحقق إسرائيل أهدافها فكان نصيراً لانتفاضة شعبنا الفلسطيني البطل في انتفاضته المباركة ضدّ الإحتلال.

شهد له العدو قبل الصديق بإدارة مفاوضات السلام في الشرق الأوسط عندما طرحت أسس “السلام العادل و الشامل”  و “الأرض مقابل السلام”. لم يلتقِ رئيساً أمريكي في واشنطن و هو الذي أقسم أنه يقطع يده و لا يوقّع سلاماً مع العدو الصهيوني الغاصب. إنه باني سوريا الحديثة و صانع الإنتصارات في التشرينين؛ تشرين التحرير و تشرين التصحيح.

و يستمر النهج و تستمر مسيرة التصحيح و ها هي سوريا اليوم بقيادة القائد العربي الشاب الدكتور بشار الأسد. صلبةٌ في مواقفها، تمثّل الشموخ و العنفوان و هي أقوى من كل حملات التشكيك و الإخضاع. و هي الدولة الوحيدة في العالم تعتبر ما يجري على أرض العراق هو مقاومةً وطنيةُ مشروعة. و إن كلّ الشعارات التي رفعتها أمريكا لتبرير هذه الحرب من الحرية و الديمقراطية و حقوق الإنسان إلى أسلحة الدمار الشامل المزعومة قد سقطت أمام ما تفعله أمام التدمير البربري و الوحشي و قصف المدن العراقية و الأماكن الدينية المقدّسة و سقوط آلاف الضحايا من الرجال و النساء و الأطفال. و ما فضيحة أبو غريب و ما رافقه من تعذيب الأسرى و انتهاك حقوقهم الإنسانية و الممارسات غير  الأخلاقية إلا خير شاهدٍ لما تقوم به القوات الغازية في العراق.

 أيها الحضور:

إزاء هذه المواقف السورية المشرّفة لسوريا الأسد و التي عبّر عنها سيادة الرئيس الدكتور بشار حافظ الأسد في العديد من مؤتمرات القمة العربية و الإسلامية تجاه قضايا المنطقة أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عبر الكونغرس الأمريكي ما يسمى “قانون محاسبة سوريا” ظلماً و عدواناً و راحت ترسل كبار المسؤولين الأمريكيين في البيت الأبيض من كولن باول و غيره و من الوفود و المبعوثين لإخضاع سوريا و تغير قناعاتها تارةً بالترهيب و تارةً بالترغيب مما جعل سوريا اليوم أكثر صموداً و ثباتاً تجاه الحقوق العربية المشروعة.

السادة الحضور، أيها الحفل الكريم، باسمكم جميعاً نرحّبُ بوزيرة المغتربين في القطر العربي الشقيق الدكتورة بثينة شعبان، نرحب بها في عرين الأسد في مدينة الشهيد في بعلبك، نقول لها أهلاً بك، أهلاً بك يا بعضاً من بقية حافظ الأسد، يا بعضاً من ريحانةٍ من رائحةِ حافظ الأسد، يا بعضاً من عاطفة حافظ الأسد، يا بعضاً من ذكر حافظ الأسد. بعلبك العروبة و المقاومة تفتح قلبها و عقلها لك. نرحب بك أنتِ يا تلميذةً من مدرسة حافظ و بشّار الأسد.

السادة الحضور: إعذروني إن كنت قد زرفت هذه الدموع. معالي الوزيرة من مواليد حمص، متزوجة و لها ثلاثة أولاد. نالت شهادة الدكتوراه من جامعات دمشق و بريطانيا باللغة الإنكليزية. نائبة رئيس اتحاد الكتّاب العرب. لها عدّة مؤلفات باللغتين العربية و الإنكليزية. شغلت مديرة إدارة الإعلام الخارجي في وزارة الخارجية السورية. وزيرة المغتربين من أيلول 2003 أهلاً بكِ و سهلاً و المنبر لكِ و شكراً.

الدكتورة بثينة:

أصحاب المعالي و الفضيلة و السعادة ،

السيد ممثل  قائد الجيش،

ممثلوا الأحزاب و الجبهات الوطنية و القوى الفلسطينية،

أيتها السيدات، أيها السادة،

أتوجّه أولاً بجزيل الشكر لمركز الشهيد باسل الأسد على هذه الدعوة الكريمة التي قدّمها لي و على فرصة اللقاء التي قدّمها لي هذا المساء في مناسبةٍ عزيزةٍ على قلوبنا جميعاً، و إني أعتقد اليوم أنّ العمل الثقافي و النشاط الثقافي هو عملٌ مقاوم، و أنّ نشاطاتنا الثقافية و الفكرية هي اليوم جزءٌ هام من مقاومتنا لمحاولة محو الهوية و التاريخ التي نتعرض لها جميعاً.

إنّ جلالة من أتيتُ لأحدثكم عنه أكبر من أن أكون لائقةً بها. و أنّ عظمةَ من عاصرت ترعبني و أنا أحاول الحديث عنه. فلم يخطر ببالي على مدى عشر سنوات كنت أستمتع بكل دقيقةٍ من تلك اللقاءات الرائعة بأني سأقف يوماً كي أتحدّث عن عظمةِ حافظ الأسد. لأنه كان يبدو لي أعرق من التاريخ و ابعد من المستقبل و أقوى من الموت. لم يكن حافظ الأسد رجلاً أو رئيساً فقط، بل كان حالةً وطنيةً، قوميةً و دولية. كان فكراً استراتيجياً نيّراً و إنساناً عظيماً. جمع بين الفكر و الذكاء و التواضع و الأنصهار بالقضية الإنصهار الكامل. فلا تشعر و أنت تتحدث إليه إلا بعظمة إنسانيتك أنت. هكذا كان يشعر حافظ الأسد كل من يجلس حوله، يشعرهم بعظمتهم هم لأن الإنسانية بالنسبة له كانت أعظم من كل شيء. كان حالةً وطنيةً على المستوى  الداخلي، و كان حالةً قوميةً على المستوى العربي، و كان حالةً أخلاقيةً و إنسانيةً على المستوى الدولي.

و أعتقد اليوم أننا إذا بقينا ننتهل من فكر حافظ الأسد و نسير على خطاه كما يسير السيد الرئيس بشّار الأسد فلا خوف علينا و لا هم يحزنون. و الحقيقة أنه لا خيار لنا سوى أن نسير على هذا الطريق لأن الطريق الآخر قد أثبت أنه يستهدف اقتلاع الأرض و قتل الشعب و سرقة الهوية و التاريخ و جعل هنود حمر هذه المنطقة. و لا أرى كيف لا يرى الآخرون تكشّف هذا المخطط الذي يبدو واضحاً للعيان.

لقد كان حافظ الأسد مناضلاً حقيقياً بعظمة المناضل و تواضع المناضل و إخلاص المناضل  و أخلاق المواطن. كان إخلاصه لقضيته بعيد الحدود. و أريد في مسار هذا الحديث أن أروي لكم بعض الأمور الخاصّة عن إخلاصه لقضيته و لوطنه.

حين تعرضت سوريا لأحداث الإخوان المسلمين تلقى بيت حافظ الأسد رسالةً تهدد كلً من باسل و بشرى لأنهما مستهدفان فما كان من الرئيس العظيم إلا استحضر نجليه و قال لهما عليكما أن تنتبها لنفسيكما فأنا لست أباً لكما فقط، و إنما أبٌ لكل السوريين و لذلك إذا حدث شيءٌ لأيٍ منكما فلا أستطيع أن أضحّي بموقفي و واجبي تجاه كل السوريين من أجل أيٍ منكما.

هكذا كان حافظ الأسد فعلاً يشعر أنه حامل قضية العرب و ليس فقط قضية السوريين. و كان لبنان حاضراً دائماً في ضميره  و قلبه.

على المستوى الداخلي قام حافظ الأسد بثورةٍ حقيقيةٍ في سوريا. و كل من يعرف سوريا قبل السبعينيات يعرف ماذا حقّق حافظ الأسد في سوريا. و خاصةً النجباء و الفقراء في سوريا يعرفون أنه من أول من جعل التعليم مجاناً في سوريا. و أنه أول من بنى المدارس في كل أنحاء القطر و في كل أرياف القطر. و قد كانت المرأة السورية أول المستفيدين من هذه الحركة العظيمة فأنا من حيلٍ كنت أولُ فتاةٍ أدخلُ مدرسةَ ذكور في القرية التي كنت أدّرس بها. لم يكن هناك حيلٌ قبلي و لا يستطيع الأهلون إرسال بناتهم إلى المدرسة للدراسة، و كان حافظ الأسد الأصيل يدرك كل هذه المشاكل. لا توجد اليوم قريةٌ في سوريا دون مدرسة و حتى البدو الرحّل يوجد لهم اليوم مدرّسون يسيرون معهم حيثما توجّهوا. و النتيجة اليوم هو أن نسبة النساء في الجامعات السورية تفوق أربعين بالمئة من نسبة الطلاب. و أنا أيضاً من جيل نلت مكافأةً لأنني كنتُ الأولى في البكالوريا في محافظة حمص و الرابعة في القطر، و نالها زملاء لي. كلنا اليوم نعمل في مفاصل حسّاسة من أجل الوطن، و كلنا اليوم لم نكن لنكمل دراستنا الجامعية و العليا لولا حافظ الأسد.

لقد نسج كلّ قضايا وطنه بنسيجٍ و راقٍ فتحدّث عن كل المسائل من أصغرها على أكبرها، ففي الواقع لم تكن هناك مسألةً صغيرةً بالنسبةِ له فكل المسائل كانت هامة من الطفولةِ إلى الشباب إلى الكبار إلى البحث العلمي إلى تحديث القوانين فهو الذي قال “علموا أولادكم و تعلّموا منهم”. و هو الذي له نظرياتٌ هائلة في الطفولةِ و في الشباب و في المرأة. و لكنني أريد أن نعترف أننا لم نولي هذه النظريات حقّها في الدرس و التمحيص و لم نستنتج منها العبر و المناهج و التي هي مؤهلةً أن تفرزها لنا جميعاً.

لم يكن يفصل القائد الخالد رحمه الله بين سوريا و لبنان أو بين سوريا و العروبة في ضميره كان العرب كلً لا يتجزأ مع أنني كنت ألمس الحسرة أحياناً و هو يتحدث عن التضامن العربي و عن القصور الذي نعاني منه في هذا المجال. و كان قليل الكلام في المسائل السلبية، لا يحب أن يتناول ما هو سلبي، بل يحب أن يعمل من أجل ما هو إيجابي. و لكن أحياناً حين تتعثّر الأمور فإنه يقول لقد حاولنا كثيراً و كم أتمنى لو استطعنا أن نعمل أفضل على المستوى العربي.

كان يدرك أن مصيرنا واحد،  و أنّ العروبة بالنسبة له لم تكن مجرد كلامٍ أو شعارات. بل كانت في الواقع مصير يدرك أننا إذا ما اجتمعت كلمة العرب و صفوفهم فإن مستقبل العروبة كله سوف يتغير. و قد اتضحت هذه الصورة تماماً خلال العمل من أجل عملية السلام. و أريد أن أذكّر قبل ذلك بموقفين تتذكرونهما جيداً و لكنهما الآن ربما نستوضح أهمية هذين الموقفين بشكلٍ أكبر و نرى آثارهما  المديدة على المسار العربي؛ موقفه من كامب ديفد في عام 1979، و موقفه من الحرب العراقية الإيرانية. و الحقيقة كان يدرك أن خروج مصر من الساحة العربي قد أضعف العرب إلى درجةٍ يصعب بعدها استجماع القوة التي يريد. و أعتقد أننا جميعاً نتفق اليوم معه أن هذا الشرخ الذي أصاب اليوم الأمة العربية له تداعياتٌ للأسف نعيشها و نلمسها جميعاً. و موقفه من الحرب العراقية الإيراني كان يدرك أن مثل هذه الحرب ضارةٌ جداً للعرب و العروبة. ورغم كل الاعتراضات على موقف سوريا بقي ثابتاً لا يتزعزع، و ذلك لأنه لم يكن يتخذ أي موقفٍ إلا بعد إيمانٍ مطلق أن هذا الموقف ينسجم مع العروبة و مع الحق العربي و مع مستقبل العرب و طموحاتهم.

إن أدائه الدولي كان متميزاً بالفعل، و الفترة التي عاصرته بها عن قرب من عام 1990 إلى عام 2000 و الذي فاوض من أجل وضع مرجعية مدريد قبل بدء عملية السلام في مدريد، و فاوض بعدها عملية السلام. فقد كانت فكرته الأساسية من كل هذا الأمر هي أن عدونا الصهيوني كان يحتل أرضنا و يقتل أبناءنا ويقولون للعالم أننا نريد سلاماً و أن العرب لا يريدون سلام. و بمنظور سياسي استراتيجي قرر أن يقلب هذه المعادلة في نظر الرأي العام العالمي و قرّر أننا لا نخسر شيئاً إذا ما قلنا للعالم أننا فاوضنا لأننا نريد سلام و كان متأكداً أن عدوّنا لا يريد سلام و إنما يريد التوسع و الإستيطان و أن العرب يمكن أن يكسبوا معركة الرأي العام العالمي إذا ما عبّروا عن استعدادهم للسلام و أن عدوّنا لا يريد السلام و لن يقبل السلام بأي حالٍ من الأحوال.

لقد كانت لقاءاته بوزراء الخارجية الأمريكيين و الرؤساء الأمريكيين مفخرةً للعرب جميعاً. فقد كان محامياً عن الحق العربي لا يلين و كان محافظاً على الكرامة العربية بشكل يحق لنا جميعاً أن نفخر به. و كان حريصاً على كل عربي من المغرب إلى العراق. و الشيء الذي أذهلني و أنا أترجم له رحمه الله هو أنني لم أكن أتخيل على الإطلاق أن هناك سياسياً يقول في الغرف المغلقة ذات الشيء الذي يقوله لشعبه و للإعلام و للعرب و للعالم. لم تكن هناك كلمةً واحدة في مفاوضاته في الغرف المغلقة عمّا يعلنه للعرب جميعاً لأنه كان صادقاً مع نفسه و كان صادقاً مع وطنه و كان صادقاً مع ربّه و لا حاجة له كي يكون غير ذلك.

في مفاوضاته من أجل السلام كان عنيداً و ذكياً و شجاعاً و مناوراً. أكثر من مرّة يتوقف المفاوضون أتذكّر من أجل اتفاق نيسان و يريدون الخروج من القاعة و لم يكن ليغير جلسته أو يشعر أحداً أنه مستعداً أن يغير مشاعره تجاه أي شيء، بل يبقى هناك واثقاً من خطّه من يرغب فليستمر و من يرغب فلينسحب و هو لم يغير رأياً و لم يغير موقفاً. و كنت أرى كيف أن الأمريكيين يأتون ببطاقاتٍ صفرٍ و حمرٍ و خضر و بفريق عملٍ يتألف من أربعة أو خمسة يتناوبون على الحديث معه و لا ورقة معه على الإطلاق، بل يتحدث عن التاريخ و الشعب و المواقع دون أي عون من أحد و دون أن يتدخّل أحد.

في جنيف عام 1994 في لقاءه مع الرئيس بل كلنتون كان لي شرف ترجمة ذلك اللقاء. و حين دخلنا إلى اللقاء سلّمني ملفاً و قال لي ضعي هذا الملف معكِ فوضعته على الطاولة و اجتمع الوفدان لمدة حوالي ثلاث ساعات، و بعد ذلك قرّر الرئيسان أن يجتمعا لوحدهما و طال الحديث حوالي ساعتين. و أريد أن أقول لكم بكل صدق أنه كان مدافعاً عن لبنان دفاعه عن الجولان في كل كلمة و في كل لحظة و في كل فكرة. لم يكن يشعر أن الجولان أغلى من لبنان على الإطلاق. و حين انتهى اللقاء لم يطلب مني ذلك الملف أبداً. فأمسكت الملف و قلت له سيادة الرئيس هل تريدون أن تنظروا في هذا الملف؟؟ فقال لي “و الله نسيناه”.  سبع ساعات من الحديث و الجدل و العمل السياسي الرائع و العظيم لم يفتح ملفاً و لم ينظر ورقةً لأنه كان يعيش القضية و كان منصهراً بها. مراتٍ كثيرة نكون معه في المكتب خلال المفاوضات من أجل السلام و يستمر اللقاء ساعات قد يتخلله هاتفٌ من الرئيس كلينتون له، و يأتي إتصال من المنزل حوالي الساعة الخامسة أو السادسة ليقول “و الله لا استطيع تذكّر الغداء، و الله أم فاتن تحاول أن تنظّم لي الغداء لكنها لم تنجح بها، كل هذه السنين و لم تنجح بها”. هذا الرجل الذي ينسى أن يأكل لأنه يعيش قضيته بكل جوارحه و بكل إمكاناته و بكل هواجسه.

كان واضحاً له أن الإخلاص للقضية و العمل من أجلها هو الطريق الوحيد و أن المخططات لتقويض هوية هذه الأمة كبيرة و كثيرة و شائكة.  و أعتقد أنّه لو وفّق رحمه الله بعلاقاتٍ عربيةٍ أفضل و بفرص عملٍ عربيةٍ أفضل لتغيّر وجه مستقبل العرب و العروبة. لقد كان يحاول جاهداً خاصةً بالنسبة للعراق كما تذكرون، حاول جاهداً أن يجعل من سوريا و العراق قوةً إقليمية و لكن للأسف الواقع الآن فضح للجميع ما هي الصعوبات التي كانت تعتري هذا الطريق.

كان يؤكد على أهمية خلق نظامٍ إقليمي، و من هذا المنطلق كانت العلاقة التي أسس لها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، و كان يحاول جاهداً أن يؤسس لعلاقةٍ مع الجمهورية التركية لأنه كان يدرك أن خلق نظامٍ إقليمي هو أمرٌ هام للعرب و لمستقبل العرب. و أعتقد أن الرئيس حافظ الأسد رحمه الله لو وفّرت له الأدوات الكفوءة، دعوني أقول، لتمكنّا من عمل الكثير.

و أنا أريد أن أحدّثكم بصراحة، فالقائد يوجّه و يرشد و يفكّر و يضع الاستراتيجيات و لكنّه لا يستطيع أن يجلس مكان كلّ إنسان و ينفّذ. و القائد أيضاً بحاجة إلى أناسٍ مخلصين يعملون معه ليلاً معه لتنفيذ رؤيته. و أعتقد أن رؤية القائد الخالد حافظ الأسد و التي يحملها اليوم بكل إقتدار الدكتور بشّار الأسد قادرة على أن توجّه هذه الأمة بالإتجاه الصحيح.

اليوم هذه الأمة تعاني من الاختراقات، تعاني من التشويش، تعاني من الخلط بين الأوراق و هذا في غاية الخطورة، الحقيقة. و سوريا و لبنان أعتقد أنهما مستهدفان لأنهما يمثّلان آخر معقلٍ لهذا التفكير الاستراتيجي العربي، و المطلوب ليس الفصائل الفلسطينية أو حزب الله أو كلّ هذه الكلمات، هذه كلّها تفاصيل، و أن المطلوب حقيقة هو هويتنا و تاريخنا وحضارتنا و ديننا، هذا هو المطلوب. المطلوب هو تغيير هوية هذه المنطقة و نحن لا نخمن حين نقول ذلك فحين أدلت كونداليزا رايس شهادتها أمام اللجنة الخاصة بأحداث أيلول قالت نريد تغيير طبيعة الشرق الأوسط، و إذا رأيتم خطاب الرئيس بوش أمام الكلية العسكرية يتلخص بعبارتين إثنتين؛ أن الشرق الأوسط تملئه بؤرة مريرة تشجع الإرهاب. و أن الغرب هو الغرب المتحضّر القادم كي يخلّص الشرق الأوسط من هذا الإرهاب، و بذلك  ألغوا تاريخنا و شعوبنا و حضارتنا.

أعتقد أنّ الهدف في العراق ليس نفط العراق، فليس النفط هو المهم. الولايات المتحدة تدفع مليارات الدولارات كل عام. إن الهدف هو من لا يتحدث عنه أيٍ منا و هو بابل و نينوى و التاريخ و الآثار و التي تشحن كل يوم بمئات الشاحنات لتغيير وجه المنطقة و للإدعاء بأن هذا التاريخ ليس لنا و إنما هو لأعدائنا.

المطلوب في رفح و غزة و جنين هو قتل الفلسطينيين و تهجيرهم و الإستيلاء على الأرض و الماء. المطلوب هو تغييب العرب عن أرضهم و إحلال الصهيونية محلهم. المطلوب هو تقسيمنا إلى طوائف و أديان و أعراق و إلغاء هويتنا و تاريخنا. لاحظوا حتى الأخبار للأسف في الإعلام العربي تنقل نفس الصيغة التي يتحدث بها الإعلام الغربي؛ فهو يتحدث عن الشيعة و السنة و الآشوريين و الأكراد. هذا المنطق الذي يجب أن يكون مرفوضاً من كل الفضائيات العربية و من الإعلام العربي و من كل العرب و المسلمين. لأننا نحن نفخر بالتعايش و المحبة و المودّة التي نعيشها لآلاف السنين في هذه المنطقة. و أنا أعتقد إذا كانت هذه المنطقة كما يتحدثون عنها لا قيمة لها فلماذا هم قادمون إليها و حريصون على الإستيلاء عليها. أنا أقول لكم من معرفتي لما يدورون في الغرب إنهم يموتون حسداً من تاريخنا  و من حضارتنا و من هويتنا و من عراقتنا و لكن للأسف هناك بعض الجهلة التي يجهلون قيمة هذه المنطقة و يعتقدون أنهم قادمون ليحضّروا هذه المنطقة. هناك فرق بين ضعف النظام السياسي في العالم العربي و بين التفرقة التي يعيشها العرب من جهة و بين القيمة الحضارية للعرب و المسلمين.

لقد قدّم العرب و المسلمون للحضارة الإنسانية حضارةً يحق لنا جميعاً أن نفخر أننا أبناءها و بناتها. و حقيقة أن مجتمعاتنا تمر بمرحلةٍ صعبة يعمل الغرب جهده كي تصبح أكثر صعوبةً و أكثر شرزمةً  لا يعني أننا لا نليق بحضارتنا و لا يعني أننا لسنا قادرين على استنباط الهمّة و على السير بطريقٍ عربيٍ و قويم لكي نترك للأجيال مستقبلاً يفخرون به. أعتقد أن هذه المرحلة التي تمر بها أمتنا هي مرحلةٌ دقيقةٌ للغاية.  و تلاحظون جميعاً أن السياسة التي يقودها السيد الرئيس بشّار الأسد بكل إقتدار تستحضّرُ كلّ استراتيجية حافظ الأسد و إخلاص حافظ الأسد و إيمان حافظ الأسد بأن هذا الخيار، خيار المقاومة، هو الخيار الوحيد الذي نمتلكه و لا خيار لنا سوى المقاومة، و أن نقاوم هذا التيار.

إنّ ما يحدث لنا الآن خطيرٌ جداً. فما يتم هو تجريد كل العرب من أسلحتهم. فقد قرأتم في الأخبار منذ أيام أنّه لن يسمح لإستقدام بعض الأسلحة لمصر، ومصر دولةٌ عربية و وقعت سلاماً و لديها سفير، فلماذا يمنع عنها السلاح مثلاً؟؟ ممنوع على العرب إمتلاك السلاح، و ممنوع على العرب أن يمتلكوا الرأي العام. و ممنوع على العرب اليوم أن يحتفظوا بهويتهم و كرامتهم.

و أنا أعتقد اليوم أنّ الحفاظ على اللغة العربية الجزلة هو عمل مقاومة و هو واجب علينا جميعاً و أن النضال الثقافي و الفكري هو عملٌ مقاوم. و أنّ التمسك بالعروبة هو عملٌ مقاوم. و أنّ محاربة الاختراق داخل المجتمعات العربية هو عملٌ مقاوم. لأن العدو لم يراهن فقط اليوم على الحدود بيننا وبينه، بل أخذ يزرع لنا أفكاراً و آراءً في عقر دارنا و علينا أن نقاوم هذه الأفكار و الآراء.

و أريد أن أختتم بمقولةٍ للقائد الخالد رحمه الله إذا ما أردنا أن ندرك الخطأ من الصواب فعلينا بمقولة القائد الخالد الذي قال “كلّ ما يوحّدنا هو صحيح، و كلّ ما يفرّقنا هو خطأ”  فإذا التزمنا بهذه المقولة فنحن نعرف الصحيح من الخطأ، لأنه لا مجال لنا إلا أن نتحد على الخط فكلنا مستهدفون، و كلنا في قارب واحد و في الغرب اليوم هم لا يفرّقون بين عربي و عربي و بين عربي و مسلم. و إذا كنّا نصدّقهم بكل شيء فلماذا لا نصدقهم بأننا كلٌ واحد و نتخلى عن الأمور الصغيرة التي غيبت المنظور الوطني و التي جعلت من معركتنا معركةً صعبة و التي جعلت من الصعب علينا أن نتحد.

إنّ ما كان يفعلُ من أجله حافظ الأسد و يعمل من أجله حافظ الأسد ليل نهار هو أن نضع المنظور الوطني أولاً، و إذا اتفقنا جميعاً على أن نضع المنظور الوطني أولاً فنحن لا نختلف على شيء و نحن نكون أقوياء في وجه أعداءنا. ما ينقصنا هو أن ندرك نقاط ضعفنا. و نقاط ضعفنا هو أننا لا نعرف تاريخنا بالشكل الكافي، و لا نعرف حضارتنا بالشكل الكافي و لا نقدرهم بالشكل الكافي. و لو كنّا نفعل ذلك لشعرنا بكبرياءٍ عظيمٍ، و لو اتجهنا للغرب بهذا الكبرياء لاضطر الغرب للتعامل معنا بطريقةٍ مختلفة.

و آمل من الله أن تتمكن سوريا و لبنان أن تستمر بهذا الطريق الذي يصون الأوطان و الذي يعمل من أجل مستقبلٍ مشرقٍ للعرب و المسلمين جميعاً و إذا عملنا فإنّ الله سبحانه و تعالى سوف يكون عوناً لنا و شكراً جزيلاً لكم

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى